الكاتب هو من يصغي إلى الآخرين

حجم الخط
0

في التاسعة من عمره، وصل إلى فرنسا، مع أمه. قادماً إليها من الجزائر. أمه لم تكن تقرأ ولا تكتب، لكنها حببت إليه القراءة. شغفه بالكتب أوصله إلى الحب، والمرأة التي أحبها اسمها ناديا. ضاعت منه وأرهقه البحث عنها، مثلما أرهقه البحث عن فكرة كتاب يكتبه. في سبيل البحث عن محبوبته، سوف يتوصل إلى فكرة الكتاب الذي ينوي عليه، ولكن قبل أن يبلغ تلك اللحظة، سوف يتحول إلى كاتب شبح، يدون سير أشخاص مجهولين. سوف يهب قلمه وخبرته في خدمة الآخرين، في تدوين حيوات أشخاص غير معروفين، لكنهم يظنون أن حياتهم تستحق أن تتحول إلى قصة وتُقرأ. هذا العمل أتاح له دخلاً وألا يتخلى عن شغفه بالكتاب، ثم أحاله إلى عالم آخر، أبوابه موصدة، نسمع عنه ولا نراه، هو عالم الجمعيات الخيرية في فرنسا.
هكذا تنفح رواية «البهلوانات» لمحمد عيساوي، التي صدرت أخيراً ترجمتها من الفرنسية إلى العربية (عن دار كلمات، ترجمة عبد الوهاب الملوح).
في هذه الرواية التي يتقاطع فيها التخييل بالتخييل الذاتي، تتجانب فيها السيرة مع البحث، يجد القارئ نفسه بين ضفتين، بين أولئك المشردين، الذين يرجون مساعدات من جمعيات خيرية، وأولئك العاملين في جمعيات خيرية. بين الطرفين تجري بهلوانات، فالجميع يخوض حياة مثل بهلوان يسير على حبل، في أي لحظة من المحتمل أن يفقد توازنه ويسقط إلى الأسفل، وفي الأسفل سوف يلاقي الراوي، الذي يسرد قصصهم، وانتقالهم من ترف إلى شقاء. فعلاقة الراوي مع الجمعيات الخيرية تعود إلى الطفولة، عندما حل في فرنسا مع أمه، ووجد يد العون منها، فظل مدينا لها، لذلك غامر في سرد حكايات تلك الجمعيات.
يزاوج محمد عيساوي، في روايته، بين خشونة وعذوبة، في كتابة لم تخلُ من شعرية، ومن مرجعيات أدبية مستمدة من قراءته الكثيرة، فيحيلنا إلى كامو أو أراغون وكذلك أندري برتون وآخرين، ويجد القارئ نفسه إزاء فسيفساء سردية، حيث الخيط الفاصل بين الأدب والصحافة يصير هيناً، فالمؤلف لم يتكل على شكل واحد في عمله، بل ينوع من الأشكال، كما ينوع أزمنة السرد، فكلما تقدمت الحكاية إلى الأمام، يدرج فاصلاً زمنياً، يعود فيه إلى ذكريات الطفولة، ويتذكر أمه في كل حين. يبدو أن علاقته بالكتابة تشبه علاقته بأمه. هذه الأم التي حين بلغت سناً متقدمة، أوصته أن يدفنها في أي مقبرة، من غير تحديد، لم تلعب لعبة النوستالجيا، وضرورة العودة إلى مسقط الرأس، فقد احتضنتها الجغرافيا، خارج وطنها، فلم تر مانعاً من أن تحتضنها المقابر كلها بغض النظر عن موقعها. بالتالي، فإن المؤلف يقارب سؤالاً عكس ما درجت عليه أعمال أدبية أخرى، حيث يلغي فكرة الحنين ويجعل من الإنسان كائناً مفتوحاً على الأفاق، لا يرتبط بأرض ولا ذاكرة، بل يهمه أن يحيا حياته كما يريدها، من غير مبالاة بالمكان الذي يحيا فيه. وفي هذا الزمن، حيث أخبار الحرب باتت شغلاً يومياً، والناس ينامون ويصحون على بلاغات الصواريخ وأعداد الضحايا، ينبهنا محمد عيساوي إلى ضحايا آخرين، يبدو أننا نسيناهم، ونقصد المشردين في الشوارع والطرقات، الذين لم تصبهم حرب، لكن منظومات اجتماعية حولتهم إلى ضحايا هم كذلك.

العلاج بالحكي

يعرف الجميع البيبليوثيرابيا، أو العلاج بالقراءة، حيث يستعين الأطباء بكتب، وينصحون المرضى بقراءة عناوين بعينها، حسب الحالة التي يعانون منها، لكن محمد عيساوي يذهب إلى سبيل آخر من العلاج، وهو العلاج بالحكي، يلتزم بدوره في الإصغاء إلى مجهولين، يتيح لهم أن يسردوا حكاياتهم، وفعل الحكي قد يشفيهم من تراكمات ماضيهم، ومن الأزمات التي تثقل صدرهم. كأن المؤلف يخبرنا بأن وظيفة الكاتب هي الإصغاء إلى الآخرين، فيشفي فضوله في معرفة قصصهم، ويداويهم ـ عن غير قصد ـ لأنه أتاح لهم التنفيس عن كبت يجثم على قلوبهم. لذلك ففي كل مرة يلتقي فيها واحداً من المجهولين، الذين يود أن تتحول حكايته إلى كتاب، فإن الراوي يمنح له الوقت كله من أجل أن يحكي، وبعد أن ينفس عن قصصه، تتحول العلاقة من مهنية إلى شخصية. كذلك يفعل الراوي مع العاملين في الجمعيات الخيرية، ومع المشريدن، الذين يقصدونها، يمارس دوره في الإصغاء، كما لو أنه يصغي إلى حكايته التي لا يعرفها. فقد وصل إلى فرنسا طفلاً، وأمه لم تحك له الشيء الكثير، فيستعين بقصص الآخرين في معرفة ماضيه.

الكتابة بديلاً عن الحب

منذ مطلع الرواية، يجد القارئ نفسه متورطاً مع الراوي، الذي يبحث عن حبيبته المسماة ناديا. هو يعلم أنها تعمل في مساعدة المحتاجين، لكنه لا يعلم مكان عملها، فيسافر بين الأمكنة بحثاً عن ظل لها، عن معلومة تفيده في الاقتراب منها، ويصير القارئ كذلك متورطاً في هذا البحث الطويل، ولكن شيئاً فشيئاً، يدرك الراوي أنه لم يكن يبحث عن ناديا في حد ذاتها، بل كان يبحث عن نفسه. ففي طريق العثور عليها، سوف يعيد اكتشاف نفسه، ويفرش حكايته أمام القارئ. بينما كان يعالج الآخرين بالإصغاء إليهم، فإنه يعالج نفسه في سبيل العثور على المحبوبة. الحب كان محركاً له في سرد شذرات من ماضيه، وكان سبباً في أن يلتفت إلى نفسه، أنه خلق كي يكتب حكايته وليس حكايات الآخرين، ويعيد النظر في نبوءة أمه، التي سمته: كاتب. هل هي محض صدفة أن أطلقت عليه ذلك الاسم؟ لم يؤمن الراوي بالصدفة، بل ساير رغبة الأم، التي لا تقرأ ولا تكتب، فناب عنها ابنها في شغفه بالكتب وفي تدوين حكايتها. ولأنه كان يجهل ماضيه، وهو الذي اقتلع من موطنه في السابعة من عمره، فقد وجد في الكتابة سبيلاً آخر في العثور على أرشيفه الشخصي، في تخيل حياته، التي لم تروها له أمه. فبعدما بلغ الثالثة والأربعين، تفطن الراوي إلى أنه عاش هو كذلك مثل بهلوان، يسير على حبل، في مشية مترنحة، قبل أن يدرك أن الكتابة هي التي ستعيد إليه توازنه.

٭ كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية