بعد مرور عام كامل على الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة، ألقى الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة كلمة يوم الإثنين 7 أكتوبر أقتبس منها فقرة قال فيها: «شعبنا صمد صمودا أسطوريا، رغم خذلان القريب وجبن الأنظمة وتواطئها، ورغم بطش العدو وقوى البغي والعدوان». ثلاثة مقاطع في هذه الفقرة صريحة وواضحة وتعكس ما يقع على أرض غزّة، ينبغي الوقوف عندها وتبيانها وتحليلها.
أولها تتعلق بالصمود الأسطوري للمقاومة رغم المجازر الفظيعة التي يرتكبها الكيان الصهيوني. هذا الصمود يحمل رسائل واضحة ومتعددة. فرغم التدمير شبه الكامل للبنية التحتية الأساسية في قطاع غزة وما تعيشه يوميا هذه البقعة الجغرافية المحدودة من الفظائع، تحت الردم والقصف البري والجوي وانقطاع الخدمات الحيوية من غذاء ومياه ودواء ووقود وكهرباء، كل ذلك يصعب على الخيال تصوره وعلى أي تحليل عسكري تفسيره.
هذه ملحمة سطّرتها المقاومة وأظهرت فيها أن المعركة ليست معركة سلاح فقط، لأن ما تملكه المقاومة من إمكانيات متواضعة لا يمكن مقارنته بما يملكه جيش الاحتلال من أسلحة متطورة، بل هي معركة إيمان وإرادة: إيمان المجاهدين بحقهم وبأنهم يدافعون عن أرضهم وعرضهم وشرفهم، وهذا ما عبّر عنه أحد المقاومين قائلا: « لم يبق أمام تعرضنا للإبادة الجماعية سوى الله، والعمل على تعزيز صمودنا على الأرض والمحافظة على مقاومتنا… الاحتلال سلبنا أرضنا وسلب منازلنا ولكن لن نقبل أن يسلبنا إرادتنا، ولن يزحزح ثقتنا بالمقاومة ورجالها التي نسأل الله أن يسدد رميها». كما أن هذا الصمود الأسطوري يظهر قوة النسيج الاجتماعي الفلسطيني. فأهل غزّة تمكنوا من التكيف مع الظروف القاسية والصعبة والتفّوا حول مقاومتهم وتعاونوا معها بما يملكون من إمكانات محدودة ومتاحة. فتحولت غزة إلى رمز العزة وإلى رمز عالمي للصمود والمقاومة.
كشفت معركة « طوفان الأقصى» النفاق السياسي والأخلاقي لدى الدول الغربية وأبانت للعالم وللمنبهرين بالعلمانية والثقافة الغربية انحطاط قيمها ونظمها
المقطع الثاني من كلمة أبو عبيدة جاء صريحا وواضحا قال فيه: «خذلان القريب وجبن الأنظمة وتواطؤها» صدق عليه المثل العربي: «قد بيّن الصبح لذي عينين». فلا عجب من الموقف الرسمي العربي إزاء المجازر، التي يرتكبها الاحتلال بحق أهل غزة، فكل الأنظمة الحاكمة وظيفية ومطيعة لما تمليه الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل. وهم المتحكمون في بقائها أو فنائها، وهذا ما جعل نتنياهو سابقا يوجّه أوامره للزعماء العرب بالتزام الصمت، إن أرادوا الحفاظ على دكّة كراسيهم وعروشهم. ويصر أيضا: «أقول لأصدقائنا العرب، إذا لم تنتصر إسرائيل في هذه الحرب، فدوركم قادم». ولهذا مع كل مجزرة صهيونية تتكرر المواقف المتخاذلة للدول العربية، وتكرر أسطواناتها حول عملية السلام وحل الدولتين والمساعدات الإنسانية. والأدهى والأمر نظرة الأنظمة العربية للكيان الإسرائيلي وللقضية الفلسطينية. فلم يعد الكيان الإسرائيلي عدوا يهدد الاستقرار، بل أضحى هذا الكيان الاستعماري بمنزلة الصديق الحميم. أما القضية الفلسطينية فاعتبروها مشكلة عفا عليها الزمن، والمقاومة الفلسطينية أصبحت تزعزع الاستقرار الإقليمي. فلم تُخف إحدى الدول الإقليمية غضبها من سلوك حماس فصرّحت وزيرتها بأن هجمات حماس في السابع من أكتوبر هي هجمات «بربرية وشنيعة»، وطالبت بالإطلاق الفوري لسراح «الرهائن»، ووصفت ما فعلته حماس بأنه «جرائم». كما وصف ولي عهد إحدى هذه الدول عملية «طوفان الأقصى» بأنها «بربرية ومُروّعة»؛ أما الجرائم والمجازر الإسرائيلية، فرغم فظاعتها ووحشيتها فلم يصفها بالصفات نفسها. وتبعا لذلك، كشف موسى أبو مرزوق القائد في حماس، في لقاء مع «الجزيرة مباشر» قائلا: «إنّ الكثير من الأجانب أبلغوه أن أعضاء في السلطة الفلسطينية، وبعض الدول العربية يطالبون الغرب سرّاً بالقضاء على حماس». هذا الأمر كشفه المسؤول الأمريكي دينيس روس بقوله: «خلال الأسبوعين الماضيين، عندما تحدثت مع مسؤولين عرب في أنحاء مختلفة من المنطقة أعرفهم منذ فترة طويلة، قال لي كل واحد منهم إنه لا بد من تدمير حماس في غزة»، ونقل عنهم أنه «إذا اعتبرت حماس منتصرة، فإن ذلك سيضفي الشرعية على أيديولوجية الرفض التي تتبناها الجماعة».
أما المقطع الثالث من كلمة أبو عبيدة، فبيّن فيه صمود المقاومة رغم «بطش العدو وقوى البغي والعدوان». فعلا، خلال عام كامل من الحرب على غزة ارتكب العدو الصهيوني أبشع أنواع الجرائم وأفظعها، استهدف بها النساء والأطفال وكبار السن، وسعى في الأرض فسادا ودمّر المستشفيات والمدارس والملاجئ ومراكز الإيواء والمساجد، ومارس إبادة جماعية لم يشهد التاريخ الحديث مثلها وحوّل قطاع غزة إلى منطقة غير صالحة للحياة. يجري ذلك بمساندة وتأييد من الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتنق الصهيونية، وتشارك في حرب الإبادة من خلال الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي. وإلى جانبها تقف الدول الأوروبية التي ما فتئت تتغنى بالقانون الدولي وحقوق الإنسان وتدّعي المُثل والقيم الإنسانية. سلبت من الفلسطينيين هذا الحق ووفرت لإسرائيل الغطاء الشرعي لارتكاب أبشع مجازرها تحت مبرر حق الدفاع عن النفس، وفتحت لها الطريق لتمارس كل أنواع الوحشية والغطرسة على شعب أعزل وسكان مدنيين يفتقدون إلى أدنى مقومات الحياة. ولا عجب في ذلك، فهذا الغرب الأوروبي تنغرس في بنيته العقلية خصائص لم تتغير على امتداد التاريخ: الروح الصليبية والعنصرية المقيتة.
كشفت معركة « طوفان الأقصى» النفاق السياسي والأخلاقي لدى الدول الغربية وأبانت للعالم وللمنبهرين بالعلمانية والثقافة الغربية انحطاط قيمها ونظمها، وأن العالم لم يعرف شقاء كشقائه بالحضارة الغربية. تلك محطات أساسية وردت في كلمة الناطق باسم حركة حماس أبو عبيدة، وأظهر من خلالها أن المقاومة ماضية في طريقها، رغم كيد الكائدين وأن الأهداف التي وضعها رئيس وزراء الكيان الصهيوني والمتمثلة في القضاء على المقاومة وتصفية حركة حماس، لم تتحقق رغم مرور سنة كاملة على الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، وما زال شعار حماس مرفوعا « إنه لجهاد.. نصرٌ أو استشهاد».
*أستاذ التاريخ الراهن ــ المغرب