هل خرجت مصر من المعادلة الإقليمية؟

مثلت القاهرة لعقد من الزمن العاصمة الأكثر توثبا في العالم الثالث، ويكاد يتفق كثير من المؤرخين على أن أزمة السويس 1956 كانت النهاية المبرمة لعصر الاستعمار الكلاسيكي، أو رصاصة الرحمة التي أطلقت على الجسد المنهك للإمبراطوريات القديمة، وفي وسط نشوة الوصول إلى بؤرة الاهتمام العالمي، كان الرئيس عبد الناصر يدخل في علاقة جديدة مع الأضواء، ويحاول أن يجعل مصر مصدرا للاستقطاب على المستوى العالمي لإبقائها حاضرة في حساباته ليستثمر ذلك في مشروعه الإقليمي.
لم تكن النزعة الشخصية وحدها هي ما تحرك عبد الناصر في تقديمه لمصر على مسرح الحدث العالمي، وتصعيدها بصورة تفوق قدراتها، لتزعّم دول العالم الثالث من خلال دورها في حركة عدم الانحياز، فإلى جانب شخصيته الكاريزمية واعتداده بذاته، كان فهمه ووعيه بأهمية مصر في السياسة العالمية، وقدرته على إدارة ذلك لمصلحة نظامه، لتبقى مصر بين أكثر الدول استفادة من المعونات الأمريكية في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، على الرغم من فترات انقطاع وجيزة كانت مصر تؤدي خلالها أدوارا ترتقي إلى التعامل بندية وتحدٍ مع الأمريكيين، مثل الاتهامات المصرية للأمريكيين بالمسؤولية عن اغتيال الزعيم الكونغولي بياتريس لومومبا.

تراجع المكانة الإقليمية لمصر يظهر بوصفه عاملا مساعدا للمشروع الإسرائيلي للهيمنة على المنطقة، وهو الأمر الذي سيحمل أثره الجسيم على مصر حتى على المستوى الاقتصادي

في الوقت ذاته، بقي عبد الناصر يستفيد من العلاقة مع السوفييت، ويتحصل على التمويل والسلاح والتكنولوجيا، من غير أن يتحول إلى دولة شيوعية، بل كان يطارد الشيوعيين في مصر، ويقف ضد مشروعاتهم في العراق وسوريا كذلك. في المنطقة كانت الزعامة العربية مسألة محسومة للقاهرة، وكانت العواصم العربية التي ينتقدها عبد الناصر لا تقدم نفسها بديلا، أو حتى مزاحما لهذه الزعامة، فقط كانت تتطلع لأن تتخفف من الضغوط المصرية، لأن ما ينطبق من معادلات على مصر، لا ينسحب بالضرورة على الدول العربية الأخرى، وامتد تأثير مصر عبد الناصر إلى ما وراء الحدود، فهو يناور إيران في الخليج ويسعى لعزلها في وسطها الآسيوي، ويسيطر على خيارات الإثيوبيين وأولوياتهم، ليعطيهم زعامة رمزية في القارة السمراء، بينما يبقى محتفظا بأوراق كثيرة مهمة في أكثر من بلد افريقي كبير ومؤثر، ويتحدى الفرنسيين في الثورة الجزائرية لدرجة الدعم الصريح والمباشر بالأسلحة والمعدات واحتضان قياداتها وتقديمها إلى الساحة العالمية.
السادات كان يدرك أيضا أهمية مصر، وعلى الرغم من توجهه للأمريكيين إلا أن مسألة زعامة المنطقة كانت بالنسبة للسادات مسألة على قدر كبير من الأهمية، وكثيرا ما كان يتخذ لنفسه مواقف وصائية على الدول العربية الأخرى، ويطالبها بأن تؤدي واجبات متزايدة تجاه مصر، وعندما يصل إلى طريق مسدود يتوجه إلى مبادرة السلام التي كانت تسعى لأن تضع مصر إلى جانب إسرائيل وتقدمها بديلا، فالسادات كان ينظر لنفسه وكيلا للأمريكيين لتستمر مصر في مكانتها المتقدمة. على المستوى الإقليمي بقي السادات متمسكا بفكرة هيبة مصر، ولذلك يرسل قوات الصاعقة المصرية لتنفيذ عملية تحرير رهائن في قبرص، ويدخل في حرب خاطفة مع ليبيا، ويتخذ مواقف مستقلة لاستضافة شاه إيران ودفنه في مصر، وعلى ذلك النهج بقي الرئيس حسني مبارك، فعلى الرغم من تمكنه من استعادة الدور العربي بعد غزو العراق للكويت، وظهوره بصورة الرجل المؤثر وصاحب الكلمة المرتفعة، التي استطاعت أن تنتزع قرارات مؤتمر القاهرة 1990 ومنها التدخل الخارجي والدولي في الأزمة، إلا أنه كان يتمسك بملامح الزعامة الإقليمية حتى عندما يتعارض ذلك مع أدواره المرتبطة بالأمريكيين، كما يظهر في أزمة مختطفي الباخرة أكيلي لاورا، وتهديداته بقصف أي قاعدة إيرانية تستضيفها السودان على البحر الأحمر، وحتى العلاقات مع حركة حماس ورفضه للتدخل الأمريكي والإسرائيلي في مسألة إدارة العلاقة المصرية مع قطاع غزة في سنة 2005. كل هذه الاعتبارات والمواقف التي أتت لتفسيرها وتأكيدها خلال علاقات مصر مع محيطها الإقليمي، وتوظيفها لمصلحتها من خلال الضغط على الدول الكبرى وترجمة زعامتها الواضحة، وبعد ذلك مكانتها التي لا يمكن تجاهلها إلى مكتسبات سياسية واقتصادية، أصبحت اليوم محلا للشك على المستوى الإقليمي والدولي، ولم تكن الحرب الأخيرة على غزة والإجراءات الاستفزازية الإسرائيلية التي وصلت إلى العربدة في محور فيلادلفيا، إلا نتيجة لأكثر من موقف حرج لم تتمكن مصر خلاله من فرض كلمتها في المنطقة، وبقيت تفضل أن تستخدم استراتيجيات متهيبة وسلبية في بعض الأحيان، وباستثناء الغارة التي أعقبت ذبح العمال المصريين في ليبيا سنة 2015، فإن مصر تبدو اليوم بعيدة للغاية عن مصر في المراحل السابقة. في السياق الطبيعي لفلسفة مصر الإقليمية، لم يكن ليحلم الإثيوبيون ببناء سد النهضة إلا بالطريقة التي تتلاءم مع مصر وأولوياتها، أنجزوا مشروعهم تقريبا، والنفوذ المصري في السودان وليبيا ليس في حالته المثلى، فالأوراق المصرية لا ترتقي لأن تكون صاحبة الكلمة العليا، أما في الملفات الأخرى فتظهر وزارة الخارجية والمصرية وكأنها تقوم بمعالجة البيان نفسه، وتغير فقط معلومة هنا أو هناك حسب الحدث الذي يتطلب تعليقها. كان استرضاء مصر أو احتواؤها، أو حتى احتمالات الصدام، جزءا من الإدارة المصرية إلى جانب ما يوفره ذلك من خدمة لمصالحها الوطنية، يشكل أيضا غطاء اقتصاديا مهما، على فرضية أن مصر أكبر من أن تترك جانبا، ولكن الرئيس السيسي لم يتمكن من إدارة ذلك، ليحرك مجموعة من الثوابت والأولويات بصورة لم تعد مفهومة للمصريين أو غيرهم.
تراجع المكانة الإقليمية لمصر يظهر بوصفه عاملا مساعدا للمشروع الإسرائيلي للهيمنة على المنطقة، وهو الأمر الذي سيحمل أثره الجسيم على مصر حتى على المستوى الاقتصادي، الذي تم تصديره سببا للانكفاء المصري، فالاقتصاد المصري لا يمكن أن يعمل بمعزل عن المكانة المتقدمة، والقدرة على فرض كلمة معتبرة وثقيلة الوزن في الفضاء الجغرافي لمصر وخوض المواجهات الضرورية مع القوى الإقليمية الأخرى، وهو الأمر الذي سيحولها إلى فرصة استثمارية وينقلها من الفعل الإيجابي إلى سلبية مكلفة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.
كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية