من لم يستطع الكيان قمعه يقتله، ومن إغلاق مكتب «الجزيرة» في رام الله، واسكات وليد العمري وإخوانه، إلى استهداف طواقم الفضائيات وعوائلهم في القطاع، ولن يكون آخرهم مصور «الجزيرة» فادي الوحيدي، هذه هي إسرائيل بدون رتوش!
قبل الثورة المصرية، حدث أن تقدمت بطلب إلى لجنة شؤون الأحزاب بتأسيس حزب يحمل اسم «التحالف الوطني»، فرفضته، فطعنت في قرار الرفض أمام المحكمة الإدارية العليا (دائرة الأحزاب السياسية) وهناك قال المحامي في مرافعته كيف أن إسرائيل بها (كذا حزب)، وتأسيس الأحزاب فيها لا يخضع لمثل هذه الإجراءات العقيمة، وأن مصر أولى بذلك!
وكان تراث المحكمة قد تأسس عند المنع، على مقولة كان يضعها رئيس هيئة المفوضين المستشار عصام عبد العزيز في تقاريره، وكان قاضياً منتدباً في جهات حكومية عدة في وقت واحد، من بينها وزارة الزراعة، حيث الوزير يوسف والي هو الأمين العام للحزب الوطني الحاكم، مفادها أن كثرة الأحزاب تربك الحياة السياسية!
كان المسلم به وقتئذ هو دعاية إسرائيل لنفسها، أنها جزيرة الديمقراطية وسط محيط الطغيان العربي، فجاءت الحرب الحالية كاشفة لكل هذه الزيف، فماذا بقي من إسرائيل؟!
الجارة مصر تعتقل الصحافيين، بتهمة نشر أخبار كاذبة، دون أن تظهر جهات التحقيق هذه الأخبار وصحتها، لأن لدينا زملاء اعتقلوا بهذه التهمة، دون أن يكونوا قد نشروا خبراً واحداً؛ كاذباً أو صحيحاً، بينما في إسرائيل فإن ألة القتل تعمل بهمة ونشاط، فتقتل شيرين أبو عاقلة، وترفض إجراء تحقيق موضوعي حول الجريمة، وفي حرب غزة الأخيرة، استهدفت طواقم الإعلاميين بصواريخها، وامتدت يد الإجرام إلى عوائلهم، ولم يتوقف استهداف صواريخها للمراسلين المعروفين للمشاهدين، مثل وائل الدحدوح وإخوانه، ولكنها طالت من يقفون خلف الكاميرا، مثل الضحية الأخيرة لهذه الجنون فادي الوحيدي، الذي انتقل ليكون موضوع الكاميرا وهو سابح في دمائه، فماذا بقي من دعاية الكيان حول نفسه؟!
أتذكر أن صديقي المستشار سعيد العشماوي، رحمه الله، أصدر كتيباً عن الصراع مع إسرائيل، وكيف أنه صار صراعاً حضارياً، سيحسمه الأكثر تحضراً، ولم يكن يساروه شك في أن إسرائيل حتى كتابة هذا المؤلف هي الأكثر تحضراً، ولم يعش حتى يشاهد هذا السقوط الكبير، عندما تستهدف آلة الحرب الصحافيين وأسرهم، والكاميرا والمصور، والأطفال والمستشفيات.. فماذا بقي من دعاية الكيان حول نفسه!
الرقابة على الإعلام
كان لدينا اعتقاد أن الإعلام الإسرائيلي يقول الحقيقة، لكن بإعلان الحرب تم فرض الرقابة على وسائل الإعلام، كأي دولة في المحيط، وقد تسن لي قراءة كل قوانين الصحافة والمطبوعات المصرية منذ أول قانون وحتى القوانين الحالية الصادرة في سنة 2018، فقد لفت انتباهي هذا النص المتوارث عن فرض الرقابة على الصحف يكون بإعلان الحرب أو بالتعبئة العامة استعداداً لها، وفكرت في دراسة الأمر في ضوء قوانين الدول المتقدمة في مجال الحريات، وهل يدخل في باب التنظيم أم يعد من ضمن القيود التي تكبل حرية الصحافة، وهل هو شأن عربي خالص أم أن الدول المتقدمة تعرفه أيضاً؟!
بيد أن الكيان قطع علي الطريق بفرض الرقابة العسكرية على ما تنشره الصحف عن الحرب، وليست لدينا ثقة في ما يذاع عن أعداد الضحايا وما إلى ذلك، لا سيما بعد الصواريخ الإيرانية، التي جرى الاستخفاف بها في الأيام الأولى، لنقف على أن صواريخ صدام حسين كانت مؤثرة جداً، ولكن الإعلام الإسرائيلي لم يكن ينشر الحقيقة طيلة هذه السنوات، الأمر الذي مثل زاداً لإطلاق لقب «فشنك» في وصفها من قبل الإعلام المصري مثلاً!
لقد حرمنا الاستبداد الإسرائيلي من رشقة المعلومات الصباحية من جانب مدير مكتب «الجزيرة» في الأرض المحتلة وليد العمري، والذي يمتلك القدرة الفائقة على الإلمام بالمشهد الإسرائيلي، فيجمع بين المعلومة والقدرة على تحليلها، وطلاقة اللسان، فكانت وجبة يومية دسمة، ولو أعطيت مساحة أوسع للمراسلين، وأقل للمحللين لكان خيراً، لا سيما بعد أن طال أمد الحرب، وصار الخبر وتفسيره، وليس تأويله، هو المطلوب!
ومع هذه الرسالة اليومية الموضوعية عن موقف الحكومة والساسة والصحافة الإسرائيلية، فإن القوات الإسرائيلية تحركت لتقتحم المكتب، ليكون في انتظارها وليد العمري بكاميرته، التي نقلت الحدث للعالم على الهواء مباشرة. والإغلاق لمدة 45 يوماً بأمر عسكري، عجز عن تبرير القرار، فكان أشبه بقرارات السلطة المصرية ودوائرها القضائية بنشر أخبار كاذبة، وقد سجن زميلنا ربيع الشيخ في «الجزيرة مباشر» ثلاث سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة، وإن قلت هنا من قبل أن الخبر الوحيد المنشور على صفحتيه «فيسبوك»، و»تويتر»، هو أنه يكرر بين الحين والآخر عبارة «أحلم بغد مشرق»، فهل هذا هو الخبر الكاذب، الذي يكدر الأمن العام في مصر، باعتبار أنه لا غد مشرق، والغد سيكون أكثر سواداً من قرن الخروب؟!
انتبهت مؤخراً إلى أنني لم أكن دقيقاً في ما قلت، فالخبر المنشور الذي سبق القبض على «ربيع» هو عودة العلاقات المصرية – القطرية، مع صورة لشيرين أبو عاقلة، وهي تجري مقابلة مع وزير مصري، فأين الكذب في هذا الخبر؟!
أفضل حالاً من شيرين ومحمود حسين
«ربيع» أفضل حالاً من شيرين أبو عاقلة، فقد سُجن ثلاث سنوات، بدون محاكمة وخرج وسافر، أما شيرين فتعرضت بعد ذلك للاغتيال الإسرائيلي، قبل فتح مكتب القاهرة رسميا والاستقرار في مصر باعتبارها ستكون مديرة لهذا المكتب، الذي لم يفتح إلى الآن!
و«ربيع» أفضل حالاً من زميله محمود حسين، الذي خرج من السجن بإجراءات احترازية ولا يستطيع إلى الآن السفر والالتحاق بعمله في الدوحة كونه أسيراً في القاهرة، وكانت تهمته أيضاً نشر أخبار كاذبة، مع أنه منذ الانقلاب العسكري وطيلة الفترة التي سبقت اعتقاله، كان بعيداً عن الملف المصري!
لم يستطع الأمر العسكري الإسرائيلي تبرير قرار الإغلاق، باتهام وليد العمري بنشر أخبار كاذبة، ومع هذا جاءت القوة الغاشمة لتنفذ القرار، فالكنيست منح الحكومة صلاحية حظر الشبكات الإخبارية الأجنبية إذا رأت أنها تشكل خطراً على الأمن القومي!
وفي عالمنا العربي نعلم أن عبارة «الخطر على الأمن القومي» من العبارات المطاطة، التي تفتقد للضبط القانوني، فأعطت الحكومة سلطة إغلاق مكتب قناة «الجزيرة» ومداهمته، وهي متحللة من عبء توضيح ما هو الخطر الذي يمثله المكتب على الأمن القومي، إلا إذا كان العقاب نزل على مجمل أعداء قناة الجزيرة، التي نقلت الحقيقة للناس، فأضرت بسمعة قتلة الأطفال، واستهداف الصحافيين والنساء والمستشفيات، فتعرى الكيان أمام العالم كله، وسقطت الدعاية التي استقرت في أذهاننا عن أن إسرائيل هي جزيرة الديمقراطية في غابة من الديكتاتوريات العربية!
والعجيب أن القرار لم يتضمن مصادرة الأجهزة لكن القوات الغاشمة أساءت استخدام السلطة وقامت بمصادرتها، كأي عملية سطو مسلح.
لقد ذهبت الدعاية الإسرائيلية في مهب الريح.
«القاهرة والناس» و«المتحدة» وما إلى ذلك
تحول مطرب قناة «القاهرة والناس» إبراهيم عيسى إلى بوق للكيان الإسرائيلي من القاهرة، فلم يتبق منه شيء، فحتى ناصريته فقدها في ظروف ليست غامضة، وأصبح بوقاً للسلطة المصرية، فلم يكن جاداً عندما قدم نفسه للناس بدعوى أنه معارض!
وهذه الزاوية شاهدة، قبل الثورة، وفي مرات كثيرة على كشفنا لحقيقته، وكيف أنه ليس معارضاً أو يحزنون، وأن الأداء في ملف التوريث، يؤدي في الأخير إلى هتاف المصريين: أرحنا بها يا جمال، وضربنا مثلاً على تسخيف قضية التوريث بما نشرته جريدته «الدستور» عن جمال مبارك تاه في منطقة الزمالك، وهو في طريقه لزيارة خطيبته (زوجته الآن)، وكان تساؤل المعارض الجهبذ: كيف لمن لا يعرف بلداً أن يحلم بحكمه؟ ومما قلته إن جمال مبارك ليس مرشحاً للعمل ساعي بريد في منطقة الزمالك!
ما علينا، فكلما طل من قناة «القاهرة والناس» منحازاً لإسرائيل وبوقاً لها، تساءلت لماذا لم تضم الشركة المتحدة «القاهرة والناس» و«صدى البلد» لعصمتها، والأخيرة نعرف مالكها، وهو محمد أبو العينين، فمن مالك «القاهرة والناس»، ومن يمولها؟!
في انتظار الإجابة وحق الرد مكفول!
صحافي من مصر