كابوس

حجم الخط
0

كان عليه أن يعود أدراجه من حيث أتى. نظر في اتجاهات مختلفة، ثم قرّ قراره أن يعود. يعود إلى أين؟ سؤال وجيه في زمن صعب ورديء. أغمض عينيه للحظات، ثم شرع في الخطو مترددا حائرا باتجاه السوق الكبير. نالت الفكرة إعجابه. هناك حركة الناس تغيّر الجو. وسعى متحمسا. كما أنه في السوق لا بد أن يجد بعض الأغراض التي تريدها زوجته حتما. أراد أن ينسى أو يتناسى ما حلّ بالمكان من خراب. موت وقتل وتدمير. وفجأة رنّ محموله، وكمن يصحو من سبات عميق دارت يده اليمنى حوله ثم امتدت الى جيب بنطاله الخلفي ليقبض على الجوّال. فتحه ملهوجا: «ايش في؟!» شعرت زوجته أن وضعه ليس طبيعيا، فسألته قلقة ومضطربة بعض الشيء: «أنت بخير ؟!» أجاب متلعثما بعض الشيء: «عادي عادي جدا!» سألته قلقة: «وين أنت؟!» أجاب: «في أول السوق. بدك أشي من السوق؟ (وسأل محاولا تمالك نفسه) «بدك أشي من السوق؟! أنا حابب أجيب معاي ضمتين سبانخ!» وردد كلمة سبانخ غير مرة!
أحتارت زوجته وسألته: كل شيء تمام ؟! أجاب بشيء من الطبيعية: «ما في أشي تمام!» تخيّلها قلقة جدا وسمع صوتها يقول: «ما في حاجة لأي أشي. المهم ترجع إلى البيت بسرعة!» وتساءل بينه وبين نفسه: «بيت؟!» وأجاب نفسه: «من حسن حظنا أنه يوجد سقف فوق رؤوسنا» (وتابع هواجسه) «على الأقل في الوقت الحالي!» واستدار ليعود إلى البيت خائفا عليه وعلى من فيه. وتنهد متعبا وبدا في مشيه كما لو أنه شاخ مرة واحدة!
تمرّد ضد البيجاما!
لم يذهب بعيدا لا في أفكاره ولا في حياته ولا في أعماله ولا في طموحاته. لقد ظل طيلة حياته يتحرّك ويدور في مكانه: من البيت إلى الشغل. والطامة الكبرى أن مكان شغله يقع في الحي الكائن فيه بيته. أولاده اعتادوا عليه وكذلك امرأته، لكن ما لم يعتد عيه الأبناء أنه كان يعود من شغله كما لو كان ماكينة، وحال وصوله يغيّر ثيابه الرسمية ويرتدي بيجامته (منامته) المقلّمة بالأبيض والأسود. أحيانا كان أولاده يتبادلون نظرات غاضبة، وذات مرة تجرّأ ابنه الصغير، قريد العش، وسأله: «يابا ما بتزهق من البيجاما؟!» نظر الأب الى الابن بانزعاج وسأله بنبرة غاضبة: «شو شايف مش عاجبتك بيجامتي؟!» تردد الصغير خائفا ثم قال:»يابا هذا أشي مكئب..» قاطعه الأب مزمجرا: «ولك يا فلعوص مكئب؟! مكئب أنت وشكالك يا كلب!» وأنسحب الولد الصغير الى غرفته ليحتمي بها.
قالت الأم: «معلش يا زلمة بعدو زغير».
قال الأب غاضبا: «هذا الجحش زغير.. عمرو 17 سنة».
توسلّت الأم: «معلش سامحه!»
نفخ الأب مستشيطا غضبا: «آخ يا زمن عاطل!»
التفت الابن الأوسط الى أبيه وقال بلهجة حنونة:»معلش يابا سامحه!» (وطلعت من فمه فجأة الجملة التالية كما لو كانت تلقائية) «الحق في إيد أخي يابا! البيجاما معمولة بس للنوم!».
صرخ الأب: «شو مضايقكم يا كلاب ببيجامتي، بس حابب أعرف شو؟!»
واندفع الى غرفة نومه كالثور الهائج. لحقت به زوجته وهي تفرك بديها خائفة وقالت للابنين الذين تبلضما: «ما كان في حاجة لتعاليقكم البايخة!» نظر الصغير الى الابن الأوسط وقال موبخا: «أنت كمان خرّبت الدنيا». واتجه كل منهم الى غرفته أو الى الحارة ليروّحوا عن أنفسهم! في اليوم التالي عاد الأولاد إلى البيت، وبالذات إلى الصالون، ليجدوا أن أباهم يبتسم ابتسامة عريضة لعودتهم وهو يرتدي بيجامة جديدة خلنج زرقاء كلون البحر!

 قاص فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية