لندن – د ب أ: تتابع الأسواق المالية والدوائر الاقتصادية في أغلب دول العالم تطورات اقتصاد الصين المتباطئ، في الوقت الذي أمضى فيه صُنّاع السياسة في بكين الأسابيع الثلاثة الماضية يحاولون إقناع العالم بأنهم عازمون على تقديم دعم قوي للاقتصاد المتعثر.
فمنذ أواخر سبتمبر/أيلول صدرت بيانات من «بنك الشعب» المركزي الصيني تعهدت بخفض أسعار الفائدة وضخ المزيد من السيولة في الاقتصاد، وتوفير التمويل لشركات الأوراق المالية، وبيانات من المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم والذي قال إنه يريد استقرار السوق العقارية ودعم سوق المال والتحول نحو سياسة نقدية ومالية مرنة، ومن لجنة التخطيط والتنمية الاقتصادية المعنية بالتخطيط للحكومة، وفيها تعهدت بحزمة سياسات لدعم الطلب المحلي، ثم بيان من وزير المالية نفسه، الذي تعهد في مطلع الأسبوع الحالي ببيع المزيد من السندات لتمويل عمليات زيادة رأسمال البنوك ودعم الحكومات المحلية ومساعدة المستهلكين.
وفي تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني «تشاتام هاوس» يقول ديفيد لوبين، الباحث الزميل في برنامج الاقتصاد والتمويل العالمي في المعهد، إنه رغم ندرة التفاصيل، فقد استجابت سوق الأسهم الصينية بحماس لهذه الموجة من البيانات الحكومية، ولكن السؤال الأكبر بالنسبة للاقتصاد العالمي هو: هل يستطيع تعزيز الطلب الصيني إعادة البلاد إلى مكانتها السابقة كوجهة موثوقة للصادرات ورؤوس الأموال العالمية؟.
ومع وضع هذا المقياس للنجاح في الاعتبار، فإنه من الأفضل إبقاء التوقعات منخفضة. فعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، كانت السلطات الصينية تكافح من أجل تحقيق هدفين متعارضين على الصعيد الاقتصادي، الأول زيادة قوة نمو الاقتصاد، والثاني تقليل مخاطر الاضطراب المالي. فهذان الهدفان لا يلتقيان مع بعضهما البعض بشكل مريح، لأن الجهود الرامية إلى تعزيز النمو تعتمد الاقتراض، في حين أن ارتفاع معدلات الدَين يمكن أن يزيد من خطر اندلاع أزمة ديون.
وللتعامل مع هذه المعضلة، يقول الباحث أن عملية صنع السياسات الاقتصادية والنقدية في الصين اتخذت شكل حركة البندول الذي يتحرك في الاتجاهين. ففي بعض الأحيان تعمل السلطات على تعزيز الاقتصاد من خلال تمويل المزيد من الإنفاق الاستثماري. وفي أحيان أخرى يتم كبح جماح هذا التحفيز إذا ما زاد قلق صناع السياسات بشأن معدلات الدَين في البلاد.
فعلى سبيل المثال خلال وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية التي تفجرت في خريف 2008، كانت الأولوية القصوى لبكين هي حماية الاقتصاد الصيني من خطر الركود من خلال إجراءات تحفيز يتم تمويلها بالاقتراض لزيادة الاستثمار في البُنية التحتية والعقارات.
ولكن بحلول عام 2012 كان القلق من ارتفاع مستويات الديون قد بدأ يسيطر على صُناّع القرار، وبدأ الاقتصاد يتباطأ مع سحب إجراءات التحفيز. وفي أواخر 2015 أطلقت بكين جولة أجرى من إجراءات التحفيز، ليتم سحبها مجدداً في 2018.
ومع وضع نمط البندول المسيطر على تفكير صناعة السياسة في الصين في الاعتبار، يقول المتفائلون إن ما أعلنته المؤسسات الصينية خلال الأسابيع الأخيرة هو أنها عادت الآن إلى وضع التحفيز. وهذا الكلام صحيح جزئياً لكن هناك ثلاثة عوامل تقول إن الأمر مختلف قليلا هذه المرة بحسب ديفيد لوبين.
أول هذه العوامل أن تزايد أعباء الديون يثير قلق السلطات الصينية بشأن الاستقرار المالي. فبيانات «بنك التسويات الدولي» تشير إلى أن ديون القطاع الخاص في الصين تضاعفت خلال السنوات الـ15 الماضية لتصل إلى ما يعادل 200% من إجمالي الناتج المحلي في نهاية 2023، في حين يقل هذا المعدل في كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو إلى 150% تقريباً.
ثاني هذه العوامل هو أن الأيديولوجيا تلعب دوراً متزايداً في السياسة الاقتصادية الصينية. وأوضح تأثير لهذا الدور ظهر، في إعطاء الشركات المملوكة للدولة الأولوية على حساب القطاع الخاص. وأصبح هذا واضحاً بصورة خاصة في 2021، من خلال حملة استهدفت منع «التوسع غير المقيد لرأس المال»، وهي طريقة بكين للتعبير عن قلقها من تعارض طرق تصرف الشركات الخاصة مع أهداف الحزب الشيوعي.
أما ثالث العوامل فهو أن المخاطر الجيوسياسية التي تواجهها بكين تسهم بدرجة كبيرة في تشكيل الصين لسياستها الاقتصادية. وأصبحت هذه المخاطر واضحة تماماً في فبراير/شباط2022، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، عندما قررت الدول الغربية الكبرى تجميد الأصول الروسية وحظر استخدام عملات هذه الدول. وأدى هذا إلى وضع اقتصاد روسيا تحت شبكة كثيفة من العقوبات التي حرمته من الوصول إلى مجموعة كبيرة من الواردات.
وليس من الصعب التفكير في مواجهة الصين لسيناريو مماثل. لذلك يتأثر النهج الذي تتبناه بكين في التعامل مع السياسة الاقتصادية إلى حد كبير بالحاجة إلى عزل نفسها عن هذا النوع من المخاطر التي ضربت روسيا في أعقاب غزوها لأوكرانيا.
ويمكن وصف السياسة الصينية الاقتصادية الحالية بأنها انفصال غير متكافئ، فهناك جهد متزامن لتقليل اعتماد الصين على العالم من خلال استبدال المنتجات المحلية بالواردات الحيوية من ناحية، ومن ناحية أخرى تسعى لزيادة اعتماد باقي دول العالم على الصين من خلال تقديم نفسها باعتبارها قوة تصنيعية كبرى.
وهذا هو السياق الصحيح لفهم أحد الأهداف الاقتصادية الرئيسية للسلطات الصينية وهو تقليل اعتماد الاقتصاد على الاستثمار العقاري.
والهدف من ذلك هو السماح بتحويل رؤوس الأموال والموارد المالية إلى قطاعات جديدة من الاقتصاد، بما يساعد في بناء هذه القوة التصنيعية، وبخاصة في مجالي التكنولوجيا المتقدمة والطاقة الخضراء. وهذا يعني في الواقع أن أي دعم مقبل للقطاع العقاري سيكون محدوداً.