رشميا اللبنانية عروسة الغابات: بلدة الأديرة التاريخية وكنز المياه

ناديا الياس
حجم الخط
0

بيروت ـ «القدس العربي»: عروسة الغابات الخضراء وينابيع المياه الصافية، غنية بخيراتها الطبيعية وتربتها الخصبة ووفرة محاصيلها، تحفظ في زواريبها ودكاكينها وحقولها أصالة وشهامة لبنانية تتناقلها الاجيال، إنها رشميا البلدة العريقة المزروعة في التاريخ والجغرافيا، المشهورة بمناظرها البهية وطبيعتها الخلابة وبمعالمها التراثية وغناها الفكري والديني والعلمي والسياسي، المتميزة بأديرتها وكنائسها الدينية الأثرية العريقة، هي بلدة الاستقلال ورجالات الدين والدنيا العظام، بلدة تستحق زيارتها والتعرف على دروبها وأماكنها ومعالمها السياحية والتراثية الأثرية الضاربة في عمق التاريخ.

موقعها
وتسميتها

تقع بلدة رشميا في قلب وقاعدة الجرد الجنوبي وكبرى قراه وبلداته، في قضاء عاليه وتبعد نحو 35 كيلومتراً عن العاصمة بيروت، وترتفع عن سطح البحر بين 350 و900 متر، وتمتد على مساحة 2500 هكتار أي ما يعادل 25 كيلومتراً، يمكن الوصول إليها عبر طريق الشام صعوداً نحو عاليه فبخشتيه وبحوارة والغابون وكفرعميه وشرتون وصولاً إلى عين تراز فرشميا.
ومن يقصد البلدة يطالعه إسمها المكتوب بألوان العلم اللبناني الأبيض والأحمر والأخضر وسط ظلال أشجار الصنوبر التي تكسو جانبيها وصولاً إلى ساحة الرؤساء التي يرتفع فيها تمثالان، الأول للرئيس حبيب باشا السعد في عهد لبنان الكبير والثاني لرئيس الشيخ بشارة الخوري رجل الاستقلال، ويقابلهما أمام كنيسة مار قرياقوس الأثرية تمثال لرئيس أساقفة بيروت للطائفة المارونية المطران اغناطيوس مبارك الذي كان أحد أعضاء الوفد اللبناني إلى باريس والذي طالب بنشوء لبنان الكبير في عام 1920.
رشميا إسم آرامي سرياني «ريش مايو» وتعني «رأس الماء» وقد سُميت بهذا الإسم نسبة لكثرة المياه والينابيع والعيون الغزيرة فيها والتي يتجاوز عددها الخمسين، ومن هنا ليس صدفة أن تضم البلدة معملاً كهرومائياً هو الأول في لبنان بُني سنة 1928 في زمن الانتداب الفرنسي على لبنان، حيث كان يزود العاصمة بيروت والضواحي وقرى الاصطياف بالكهرباء، كما أنه ليس من قبيل الصدفة لقاء نهرين في وادي رشميا المصنف كموقع طبيعي والذي لا يخرق هدوءه وسكينته سوى خرير المياه وأصوات العصافير، وتجري مساع مع محمية أرز الشوف الطبيعية لإنشاء درب الجبل من وادي رشميا إلى وادي الست والرملية حيث يتمكن هواة المشي والطبيعة من التمتع بسحر المناظر الطبيعية والمياه النقية والعذبة.
ولم يعرف حتى يومنا هذا من هو الذي أطلق هذا الاسم على رشميا بل ما يقال إن أهل رشميا القدماء من الآراميين هم الذين سموها بإسم «ريش ميا أو مايو» لما رأوه فيها من ماء غزير في ينابيعها وشلالاتها المشهورة، هي التي كانت مأهولة قبل المسيح.
ألقاب عدة أطلقت على رشميا منها «ضيعة الله» من قبل إبن البلدة الكاتب والأستاذ الجامعي الراحل وليم الخازن، نظراً لكثرة أديرتها ولإيمان أبنائها، ولقب «جورة الذهب» كون البلدة كانت تنتج أجود أنواع الحرير من خلال تربية دودة القز، وبسبب إنتاج الحرير الوفير الذي وصل لغاية مليون قرش ما يوازي 10 آلاف ليرة عثملية بات لرشميا عملة خاصة عُرفت بـ «بندر رشميا».

كهوف طبيعية

تمتاز رشميا باعتدال مناخها الصحي صيفاً وشتاء، وبرجالاتها الكبار الذين لعبوا دوراً أساسياً في التاريخ وفي حقبة الاستقلال، وتمتاز باستقطاب السياح والزوار والرياضيين وهواة السير في الطبيعة نظراً لمعالمها الطبيعية الخلابة ولضيافة وكرم أهاليها ولمقاهيها واستراحاتها ومطاعمها المنتشرة، في وادي رشميا على ضفاف النهر الذي يفصل بين قضائي الشوف وعاليه وهو يعد جنة ساحرة تجذب الزوار وصولًا إلى بركة «دندنش» وهي بركة طبيعية جميلة تتميز بتكوينها الصخري والصخور المنسكبة فوقها، وفي جبل سير مكان جوزات المير بشير التي زرعها أثناء وجوده في دير مار انطونيوس التابع للرهبنة اللبنانية المارونية، ناهيك عن ملاعب رابطة الشبيبة الرشماوية التي تستقطب الفئات العمرية على أنواعها من البلدة ومن خارجها والتي استضافت أكثر من مهرجان فني ومسرحية برعاية وزير السياحة ميشال فرعون والوزراء المتعاقبين استكمالاً لأعمال فنية قبل زمن الحرب بينها مسرحية «المحطة» ومسرحية «موسم العز» حيث كانت إبنة رشميا نوال الكك رفيقة فيروز ونصري شمي الدين تشارك في هذه المسرحيات الغنائية في البلدة مع المطرب مروان محفوظ.
ويمتاز وادي رشميا وعلى جانبي نهر الدامور بمغاور «الخفان» والكروانة والكهوف الطبيعية الشبيهة بمغارة جعيتا والمتدلية فيها المقَرصَنات الكلسية ذات المناظر الخلابة، وقد نُقلت كمية من هذه الحجارة وبنيت منها المغارة التي أمام مدخل الصرح البطريركي في بكركي.
كما امتازت رشميا بإنتاج الحرير، وهي كانت تعد البلدة الثانية بإنتاج الفيالج في لبنان بعد الدامور، فوصل إنتاجها إلى حوالي الأربعين ألف أقة شرانق، ومن أجل تصنيع هذه المحاصيل نشأت في البلدة وجوارها معامل حرير أو ما يُعرَف بـ «كرخانة الحرير» وصل عددها إلى ستة توزعت في الأماكن الملائمة والمجاورة لينابيع المياه لحاجة هذه المعامل لكميات كبيرة منها، واستمرت هذه المعامل في العمل حتى الثلاثينيات من القرن الماضي حتى توقفت نهائياً وهُدمت ولم يبق منها سوى بعض الخرائب. كما تميزت بانتشار الطواحين التي بلغ عددها 6 عمل معظمها على المياه، ولكنها توقفت جميعها حوالي عام 1955.

تراثها وتاريخها

عرفت رشميا العصر البيزنطي بدليل اكتشاف آثار بيزنطية في باطن أرضها، ووجود كتابات إغريقية والعثور في باطن محلة البيادر على تمثال برونزي صغير وحجارة حفر عليها بأحرف بارزة بقي منها ثلاثة: الأول رسم عليه قمر بداخله صليب. والثاني يحمل أحرفاً يونانية ناتئة وشبه دارسة. أما الثالث البالغ طوله زهاء المتر والنصف وعلوه قرابة المتر فرُسمت عليه دائرة نافرة بشكل شعاع. وقد حفظت هذه الحجارة في عتبات بعض منازل رشميا. وأثبتت الدراسات التي أجريت عليها أنها تعود إلى القرن السادس الميلادي.
ويروي الرشماويون أن أجدادهم عثروا في منطقة تلتيتي شرق البلدة على بعض النواويس الحجرية التي تعود إلى حقبة الإمبراطورية الرومانية في محلة ما تزال تحمل إلى اليوم إسم «جورة الناووس».
ووفقاً للمؤرخين، فإن الصليبيين عرجوا على البلدة وسكنوها مستفيدين من غلالها الوفيرة متخذين مكاناً لهم في جبل سير حيث دير «مار انطونيوس الكبير» الحالي، ويروي كبار البلدة أنه عثر في ما مضى على أعمدة حجرية لقصر تهدم وتحطم ركامه ويعود إلى عهد الصليبيين، وقد عثر عليه قرب عين الميس.

أسواق تجارية

جُعلت رشميا في عهد المتصرفية قاعدة مديرية الجرد الجنوبي في قضاء الشوف وعُيّن أول مدير لها على عهد داوود باشا هو الشيخ أمين الخوري، وألحقت بها 26 قرية مجاورة، وفي شهر تموز/يوليو 1880 أصدر المتصرف رستم باشا قراراً بتعيين أسواق تجارية عامة في بعض بلدات الجبل وخصص لرشميا يوم الخميس من كل أسبوع لإقامة سوق فيها، وبعد عام 1900 ألحقت قرى أخرى بمديرية رشميا، وأصبح مراد بك السعد مدير ناحية الجرد الجنوبي وكان يتمتع بصلاحيات قضائية وإجرائية ويحافظ على الأمن بواسطة أفراد من الضابطة وضعت بأمرته ويحدد الضرائب ويجبيها بمعاونة مشايخ الصلح والمخاتير.

المعالم الدينية

تختزن رشميا خمسة معالم دينية أثرية عريقة وهي دير مار يوحنا المعمدان الذي تأسس عام 1656 وهو أقدم أديرة الرهبانية اللبنانية المارونية التي تسلمته في عام 1686 وزاره الطوباوي البطريرك اسطفان الدويهي.
ودير مار انطونيوس الكبير في أجمل موقع في جبل سير بني في عام 1706 وهو تابع للرهبانية اللبنانية المارونية أيضاً، وفي هذا الدير حلّ الأمير بشير الثاني الشهابي ضيفاً عندما كان فتى وزرع أشجار جوز قرب عين الدير عرفت بجوزات المير، ويتداول رهبان الدير مثلاً قديماً «شتّي بالناعمة وصيّف بسير لمين بصير؟».
ودير ومدرسة مار قرياقوس للراهبات الانطونيات، دير مار الياس الحي التابع للرهبانية الباسيلية المخلصية للروم الكاثوليك الذي بُنيت كنيسته سنة 1778 والتي شهدت انعقاد المجمع الطائفي سنة 1794 لانتخاب البطريرك كيرلس سياج المخلص، وأول راهب يذكر السجل وفاته في الدير هو الأب فيليبوس حيفاوي من بيت جن فلسطين وقد دفن فيه سنة 1769.
ودير ومزار القديسة تقلا وهو تابع لأبرشية بيروت المارونية، وكنيسة مار قرياقوس الرعائية شفيع البلدة تأسست في عام 1582 وكرّسها الطوباوي البطريرك إسطفان الدويهي في عام 1683 وزارها البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في 5 آب/أغسطس 2001 خلال المصالحة التاريخية في الجبل وهي تعد من أضخم كنائس الجبل وأجملها بناءً في عصرها وجدرانها من الحجر الأبيض المقصوب، سقفها معقود بطريقة المصالب، مذابحها من الرخام الناصع البياض والمزخرف بماء الذهب. وفوق المذبح الرئيسي رفعت صورة القديس قرياقوس وأمه يوليطا (استشهدا عام 304 م) وهي بريشة الرسام اللبناني الشهير داوود القرم (عام 1882). ولقد دفن في هذه الكنيسة الشيخ بشارة الخوري الفقيه جد الرئيس بشارة الخوري.
وعن اختيار القديس قرياقوس شفيع البلدة يروي قدامى أبناء البلدة بأن علاقة الموارنة بالغرب كانت على أشدها حين باشر الخوري بشارة مبارك الآتي من بلدة بطحا الكسروانية بتشييد الكنيسة بمعاونة أهل المنطقة، كان قرياقوس مشهوراً ومقدماً في الغرب، والمدرسة الحربية الفرنسية تحمل إسم Saint Cyr وهو باليونانية كريكس أي المنادي.
وبفعل الأحداث التي عصفت في الجبل في ثمانينات القرن الماضي تم احتراق وتدمير هذه المعالم الأثرية التي أعيد ترميمها ويستمر ترميم بعضها الآخر شأنها شأن سائر المنازل والأحياء ودروب البلدة والمنازل الأثرية.

رجال تركوا بصمات

أنجبت رشميا رجالات كبار في معظم الحقول السياسية والدينية والقانونية والفكرية والأدبية والعلمية والإعلامية والفنية. وفي احتفال تكريمي لشخصيات رشماوية رأى وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى «أن فضل رشميا على الشأن العام فقد بدأ في الحقيقة قبل نشأة الكيان، وتجسد برجالاتٍ أفذاذ كانت لهم بصمات واضحة في حياة هذا الوطن، نذكر منهم الشيخ غندور الأول مبارك الذي شارك في وضع أول دستور للموارنة يرعى شؤون طائفتهم، وكان النجم الساطع في مجمع دير اللويزة الشهير، وحبيب باشا السعد رئيس الجمهورية اللبنانية قبل الاستقلال، وبشارة خليل الخوري أول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال، وغيرهم وبعدهم الكثير الكثير وصولاً إلى وقتنا الراهن». وأضاف:» أما الفكر والتوعية والانفتاح فلرشميا معها تاريخٌ مجيدٌ مسجل، يحكي لنا بأحرفٍ من نور عن إبداعات غندور الخوري التي أثمرت (عين ورقة) وعن رجلٍ اسمه بشارة، آمن بأن كنه وجودِنا كلبنانيين، ومغزى بقائنا، يتمثل في عيشِنا معاً، وأدرك أن هذا يفرض علينا معرفة بعضنا بعضًا، فانكبّ على الدين الإسلامي يدرسه دراسة المتفقه، سابراً أغواره حتى بلغ من الإحاطة فيه مبلغاً جعله يتسنم عن جدارةٍ مرتبة عالم دين ويكتسب عن استحقاقٍ لقب الفقيه الذي يمنح للمتقدمين في العلم، فصار في عائلة الخوري المسيحية المارونية عالمٌ متفقه في الدين الإسلامي، ولعله من أجمل ما في موروثنا اللبناني هو بشارة الخوري الفقيه الذي جسد في شخصه وفكره، وعبر في اسمه عن أعلى درجات الوعي الوطني والتلاحم اللبناني والوحدة المسيحية الإسلامية».

ينابيع رشميا

أهمها على الإطلاق نبع عين الميس الذي تنبع مياهه من باطن جبل سير، وعين سير، والجوار، والمشرح، والغزلانية، وتلتيتي، ومار تقلا، وبزديّا، والكساير، والطواويني، وحلّفتي، وعين الكنيسة، وعين البراك، وعين العويني، وعين التحتانية، وعين المسيجك، وكرم الشر، وعين تراز، وبئر المنصورة.
أما ينابيع الوادي وبعضها بأسماء أصحابها فهي: نبع الفوار، والحرّان شكر الله، والحرّان رشيد، والحرّان منصور، وأبو خير، والقواس، والزير، والكروانة، ومعن، ولحود، والديك، وبودندن، والشيخ اسكندر، والهاشم، ومتى، والكك حسن، والكك غندور، وعين العمار، وعين الفاترة، والفيتي، والنقاطة، وطليع، ونقبة خازن، وبو شاهين، والصحفة، وشمشين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية