مما سجله التاريخ الحديث والمعاصر أن القادة العسكريين والاستخباريين قد يكونون أحصف من السياسيين رأيا وأحسن تبصُّرا بالمآلات البعيدة. وأجلى ما يتجلى هذا التفوق غير المفترض، بل “المُنافي لما يمليه الحَدْس” كما يقول التعبير الإنكليزي، إنما هو في مَضاءِ وعي قادة رجال القوة، أي رجال العسكر والاستخبارات، بحدود القوة وبوجوب إدراجها في نسق ضابط وناظم من المبادئ والغايات السياسية الواضحة. أما رجال السياسة فإنهم كثيرا ما يُظهرون ميلا إلى الظن بأن القوة كافية لعلاج كل مشكلة. ولا شك أن شي جين بينغ في موقفه من تايوان، وبوتين في موقفه من أوكرانيا ونتنياهو في موقفه من فلسطين ولبنان وإيران وكامل العالم العربي والإسلامي، هم أبرز الأمثلة، ولو بدرجات متفاوتة، على الإيمان الأعمى بإطلاقيّة القوة وبعُلويتها على ما عداها، في تجسيم واع أو غير واع للقولة الإنكليزية الشهيرة “مايت إيز رايت”: القوة هي الحق. أي إذا كنتَ قويا وخصمك ضعيفا، فذلك بلا مراء لأنك على حق وخصمك على باطل!
ويجدر التذكّر بأن معاوية بن أبي سفيان كان يبرر استيلاءه على الحكم بالزعم بأن هذا من تصاريف القدر، وأنه لولا المشيئة الإلهية لَما حصل. ومن أمثلة ذلك أنه كان له تأويل سوريالي للحديث الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن عمار بن ياسر “وَيْحَ عمار، تقتله الفئة الباغية”. فلما استشهد عمار في موقعة صفّين جاء عمرو بن العاص فزِعا، فقال له معاوية: ما شأنك؟ قال: قُتل عمار. فقال معاوية: قد قتل عمار، فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال له معاوية: “دحضت في بولك، أَوَنحن قتلناه؟ إنما قتله عليّ وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا”! ولأن منطق القوة هذا، الذي يوهم صاحبه بأنه على حق لمجرد أن الوقائع أتت على هواه، إنما هو منطق خاطئ يعزو النتائج إلى غير مقدماتها الحقيقية، فقد رد الإمام عليّ بأنْ قال ببلاغته وإيجازه الباهرين: “فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه!!!”.
رجال السياسة كثيرا ما يُظهرون ميلا إلى الظن بأن القوة كافية لعلاج كل مشكلة. ولا شك أن شي جين بينغ في موقفه من تايوان، وبوتين في موقفه من أوكرانيا ونتنياهو في موقفه من فلسطين ولبنان وإيران وكامل العالم العربي والإسلامي، هم أبرز الأمثلة
وقد أثبت رونن برغمان في كتابه المرجعي عن تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية، الصادر عام 2018 بعنوان “بَكِّرْ بالنهوض واقتُل أوّلا”، أن مختلف قادة الجيش والاستخبارات في إسرائيل إنما يؤول بهم طول التجربة إلى الاقتناع بألاّ حل إلا الحل السياسي وأنه لا معنى ولا مغنم من التمادي في استخدام القوة العمياء (مثلما تمادت دُوَيْلة إسبرطة المدججة المقاتلة أبدا حتى لقيت سوء المصير الذي وسمه محمود درويش بـ”الانتحار التاريخي”). ولعل أوضحهم موقفا هو مدير الموساد السابق مائير داغان الذي عينه شارون عام 2002 وكلفه بتعطيل البرنامج النووي الإيراني، والذي كان يعارض رغبة نتنياهو في شن الحرب على إيران، ويؤكد أنه لا موجب للحرب أبدا “إلا إذا كان السيف على رقبتنا”. ولهذا فإنه أقدم على إخبار مدير السي أي ايه ليون بانيتا بخطة نتنياهو (!) فكانت النتيجة أنْ ضغط عليه أوباما لثنيه عن عزمه.
وقد كسر داغان قاعدة التكتم والتحفظ بأن استدعى الصحافيين إلى مقر الموساد يوم انتهاء مهامه أوائل 2011. ورغم أنه كان محاطا بكل من المتحدث الرسمي باسم نتنياهو والضابطة العسكرية المسؤولة عن الرقابة (لأن الموساد وحدة تابعة لمكتب رئيس الوزراء، ولأن كل تناول إعلامي لعمل الموساد يخضع لإجراءات الرقابة العسكرية)، فقد أدهش الصحافيين، وأفزع صاحبيْه، بأنْ حمل على نتانياهو قائلا إن تصرفاته طائشة وإنه يقود إسرائيل إلى الوبال لأنه لا همّ له إلا نفسه. ثم ختم: وأما أنه منتخَب، فهذا لا يعني أنه من ذوي الألباب!
وفي الأصل كان داغان وشارون ومعظم عناصر المؤسستين العسكرية والاستخبارية يؤمنون، طيلة دهر، بأن القوة هي الحل لكل مشكلة، وأن الطريقة المثلى للمواجهة إنما هي “الفصل بين العربي ورأسه”. ولكنهم اكتشفوا أن هذه النزعة الإسبرطيّة العمياء هي مجرد وهم، وأنه لا بد لحكام إسرائيل من التحلي بالشجاعة التاريخية وبنفاذ البصيرة السياسية التي تيسر بلوغ الحل الكفيل بإحلال السلام. ولهذا نادى داغان في حشد جماهيري في تل أبيب عام 2015 بإسقاط نتنياهو في الانتخابات، وسأل: لماذا تعجز إسرائيل عن تحسين وضعها والعيش بسلام مع جيرانها؟ “الجواب بسيط: إن لدينا قائدا لم يخض إلا معركة وحيدة: معركة بقائه الشخصي”.
٭ كاتب تونسي