غاب الشاعر عباس بيضون عن نشاطه الشعري فترة ليست قليلة، متنقلاً من هُيام الفن الرفيع إلى عالم السرد الذي وجد فيه نوعاً من ضالته، التي سرب إليها الكثير من المحكيات والمرويات وسروده التعبيرية التي كتبها على شكل روايات سيروية إلى حد ما.
إنه عالم الرواية الحديثة، ذلكم الذي ولجه عباس بيضون، بعدة بدتْ قادرة على سبر تلك الأقانيم الجديدة التي تتلبس هذا النوع من الكتابة الإبداعية، إنها عدة السرد والسيرة للماضي القريب، سيرة الحزب والرفاق والأصدقاء والعائلة الكبيرة المتناثرة في القرى والدساكر وريف صور التاريخية، ليكتب موجزه الروائي في «مرايا فانكشتاين» و «تحليل دم» و»البوم الخسارة» و»ساعة التخلي» و»الشافيات» تلك الرواية التي كتبها بعد حادثة الطريق التي تعرض لها وخرج منها ناجياً بصعوبة بالغة.
هذه الحادثة قال عنها عباس في حديث سابق لإحدى الصحف اللبنانية بأنها قد أخذتْ منه الشعر، ولم يعد يشعر به منذ تلك الصدمة التي ألمّتْ به، لكن على ما يبدو أنه قد نجا من تلك الصدمة المروّعة التي حاولت أن تسلب منه لبابه وإكسير حياته الشعر. من زاويتي لا أظن أن عباس بيضون سيكون باستطاعته مغادرة الشعر على نحو نهائي صوب فن آخر بديل، والدليل أن مجموعته الجديدة بين أيدينا الآن وهي العمل الأول الذي يصدر بعد تلك الحادثة المؤسية.
عنوان لافت هذا الذي اقترحه علينا كعادته عباس بيضون «صلاة لبداية الصقيع»، صقيع راح يغزو لبنان ومنطقة الشرق الأوسط بطريقة غير عادية ومعهودة، عواصف ثلجية ومواسم ثلوج كثيرة غير تلك التي كانت تتمتع بها الجبال اللبنانية في كل فصل شتائي، انها هذه المرة تأتي ضمن تغيّرات كبرى وتحولات بيئوية للمناخ تمس صميم الكون والعالم الآن.
لعل القصيدة الأولى في المجموعة «أربي قلباً» هي من سيرسم مسار المجموعة الغرائبي الذي يتخذ من الإبدال والغَيْرية صيغة لملء الجسد والفراغ، وصيغة لتغيير النبرة والإيقاع والحس، حتى تغيير الصورة سيتم إبدالها بصورة فجائية، صادمة ومختلفة، تنزع إلى تحطيم العادي، باتجاه البناء للشيئية والاستمرار صوب عالمي التحوّل والتشيّؤ، داخل النسيج الشبكي للقصيدة التي تسدير بمحتوياتها وحمولتها من أجل تغيير النبرة والنوتة والجملة الموسيقية المعروفة في بعض نصوصه السابقة كما سنرى في هذا: «لا تعجبوا إن وجدتم تفاحة / إن سمعتم أسناني تصرّف/ فإن أشياء كثيرة تتحرك في صندوق صدري/هناك مفاتيح بتواريخ متعددة / الغيمة التي نزل منها اولاد على الثلج/ الكلمة التي أمطرت كثيراً فوق الأشجار / السكين الذي وقع على الطريق/ من كيس امتلأ بالهدايا،أربّي قلباً في هذه الساعة، أناديه فيأتي فوراً».
كل شيء في هذه القصيدة سيتم تغييره وإبداله «العشب الذي ملأ قفصي الصدري» تم إبداله نيابة عن الشَعر أو «أكتب على عظامي الكبيرة صندوق جسدي» العظام هنا من خلال التخييل والتصوير الجواني تحوّلتْ من عظام إلى ورق ورقائق للكتابة.
في القصيدة الثانية «الصمت» هناك حفر، هناك ثلم، هناك تبئير للصمت، الصمت في هذه القصيدة سيتحول إلى بئر، ففيه نستطيع أن نرمي، خيطاً، أسئلة، الغازاً حبالاً ملفوفة وسكاكين، لأن الصمت حسب عباس ربما يفكر فنظنها أفكارنا: «يأخذنا الهواء ويُسقط كلاً منا على حجره، حيث يجد صحيفة وحذاءين وربما لحية وأسناناً جديدة».
في قصيدة «الغراب» وهي القصيدة الثالثة في الديوان، يستعيد عباس صورة الطوفان وما يمثله الغراب من رمز في تلك الأسطورة، ولكنها هنا تتجسّد كأسطورة واقعية، فالغراب هنا عدني، رآه الشاعر أثناء زيارته إلى عدن، فاستذكره ليربطه بنوح والأسطورة والشؤم، هذا الشؤم الذي يلوح هنا كسمة لازمت الغراب كونه آكلاً حتى للحوم البشر الميتين، هناك عصافير نوح أيضاً، تأتي كنية عن الطير وإبدالاً له لتصحّح من مسار الغراب، ورؤيته الميثولوجية: «غراب وحيد يقف على ساق واحدة أمام شاطئ في عدن/ ومع أن الوقت ليس مناسباً لوقت سيئ، فإننا نظل نعتقد أنه يحمل رسالة خطرة في حوصلته/ براثنه المطبوعة على الرمل ستتحوّل في الغد إلى رموز مشؤومة يتجنّبها الصيادون».
تبرز في القصيدة الرابعة «أنا» حادثة السيارة إياها، لتتوّج العمل وتعزّزه بالتجربة والصورة وبالثيمة الغرائبية، تلك التي تغلف غالبية مجموعة «صلاة لبداية الصقيع» بساطة المشهد العادي الذي يتحوّل إلى مشهد غرائبي حافل، بالتغريب والإبدال في تضبيب الصورة، في تغريب المنسيات ومسرحتها وهندسة الاشياء البسيطة، الأشياء التي يصادفها صالحة لترميم المشهد وبنائه حتى ولو بطريقة تبدو دادائية: «جمعت أصابعي من عيدان الطريق وعظامي من الصفيح ومسامي من قطرات المطر».
غير أن القصيدة لو دخلنا إليها من مدخلها وبدايتها لوجدناها مباشرة تتحدّث عن حادثة السيارة، لتخرج روح عباس بصورة مختلفة ويتم إبدالها لتكون غير ما هي عليه قبل الحادثة: «أنظر إلى الشاشة / هذا رجل ليس له كلامي ولا وجه، مع ذلك أقول إنه أنا / تلك الحافلة التي دهستني نثرتني على الشاشات/ خرجتُ من تحت عجلاتها بروح صغيرة حملتها كشمعة/ لكنها ذابت في داخلي».
تتمظهر السرود والمرويات بشكل دائري في المجموعة، لتأخذ صفة الحكي والتدوير في الشعرية والبيت الشعري الممحو أساساً في هذه السرديات التي تمحو التتابع العنقودي وتحوّله إلى سطر نثير يستدير إلى الذي يليه ليسحبه ويكمل القصيدة حتى تنتهي، وهي محمولة على البتر في الصورة والانخطاف في المشهد والتهويل في الغرابة وبناء الجملة بضربة سريالية، أو يأتي الشاعر بجملة عادية تشي بالبساطة حتى تغدو الجملة الشعرية أحياناً على قدْر من العقلانية المقنعة بإنجازها البسيط وهي ترد في المجموعة كثيراً كسرود حكائية، نثرية، كما اتضح في قصيدة ـ حتى إشعار آخر ـ: «كانوا يبحثون عن مكان للقائهم، بدأ الأمر بلقاء حقائبهم حقيبة جنب حقيبة في حافلة أو مقهى، ثم يقوم واحد ويعتذر من أنه لم يجد طاولة أخرى / يمكن أن يكونوا دخنوا سوية، ودون قصد تعرّفوا على تبغ بعضهم البعض «،هذا المقطع يحمل كلاماً واضحاً، إنه مقطع يغيب عن التغريب، ليقع أسير القص والسرد والنثر، وكذلك هو الأمر في قصيدة «الشطرنج» وقصيدة «البرد» وقصيدة «خارج الصفحة».
أما فيما يخص البتر وقطع الجملة عن سابقتها فإننا نستطيع الإشارة إلى هذه القصيدة «سمّيني» وهي من القصائد التي تعتمد المونتاج وفن الغرافيتي، وهو هنا يُذكّر عباس بالفنان البريطاني بانسكي، ذلك الرسام الغامض الذي يأتي إلى حائط يرى فيه شيئاً ما يحرك مخيلته على الرسم، فيضع عليه رسومه الغرافيتية المعبّرة ويختفي. إنها عملية منتجة ولصق على الصورة الأولى، حتى تبين الدلالة ويتوضح المغزى، ففي هذه القصيدة التي يبدو مطلعها عادياً وهو يتحدث أو يتوسل إلى امرأة مقابلة له: «سَمّي عظمة في جسمك باسمي، ضميني بين حاجبيك، أصادف فردة حذائك، انها توشك أن تنبح أمام المنزل/ أصادف خاتمك قبل أن يصير مشنقة، أثير بقدميّ كثيراً من الريح».
هنا في المقطع الأخير سيتحوّل الشاعر كلياً عن موضوعه ليدخل في عملية اللصق المونتاجي بعد كلمة الريح، يدخل في جملة ثانية مختلفة «لكني لا أستطيع أن أحررَ نفسي» ثم يستمر في سرده، مجسّداً القفز التعبيري من مكان إلى آخر، أي من صورة إلى أخرى مغايرة، ليس لها علاقة بجارتها من الجمل السابقة أو اللاحقة ليأتي بعده هذا المقطع «لا أخرج سالماً من هذا القفل الا بكثير من المهارة / مع ذلك سأصبح متسولاً خارج هذه الجدران / يقفز جرذ آليّ، انهم يعيدون تصنيع ما قبل التاريخ/ سيرافقني الموكب / لكنهم لا يتركوني وحدي / يملأون كيساً من الهباء ويطلقونه في الجو / تتحرك الحياة في فك مهجور منذ ثلاثين عاماً».
هكذا سارت القصيدة في متوالية من المشاهد المنقطعة بعضها عن البعض الآخر، جملة تنفي التي قبلها وتتنكر إلى التي تأتي بعدها مباشرة، إننا حقاً أمام مشاهد مختلفة، دون سوية، مبتورة، الجملة تبتر الأخرى لتحل محلها، حيث نرى انفسنا أمام شاشة، تتوإلى فيها مشاهد عن عالم غريب غير مترابط، متلاش، كما يتلاشى الراوي في القصيدة ليكون في المحصّلة وحيداً أمام شاشة نفسه.
في نهاية القصيدة سيعيد الشاعر بفطنته وحنكته الفنية ونباهته الشاعرية ومقدرته الجمالية على إعادة الصلة للموضوع الأساس وهو الحديث كما نوّهنا إلى امرأة مقابلة للراوي يتغزّل بقوامها ويود أن يكون جزءاً منها حتى ولو سمّت عظمة من جسمها باسمه، أو ضميني بين حاجبيك، ليعود في نهاية القصيدة مجسّداً من جديد عملية فن اللصق التعبيري وتهيئة النص لتشكيل المونتاج اللغوي والصوري ذي البعد الدلالي الذي بدأه في بداية القصيدة قائلاً: «سألمع بين حاجبيك / سأنعش اسمي بين إصبعيكِ».
من القصائد الجميلة في الديوان هناك قصيدة «إلى أختي» وهي من القصائد التي تحمل مفهوماً روائياً يتمظهر في سياق قصيدة. في هذه القصيدة السردية التي تتألف من صفحتين تقريباً يبني عباس بيضون عالماً واسعاً فيه حياة ودنيا وأحلام ومشاكل مرفقة بتحوّلات الكائن البشري، ابتداءً من الطفولة فالصبا فالمراهقة، إنها قصيدة سيروية، شكلت عالمها من حياة السيرة الذاتية لشخصين، حيث لكل منهما عالمه وحياته الخاصة، حياة مذكر ومؤنث، حياة الحياة نفسها، كيف تعاش من قبل أخوَين، وكما يبدو في القصيدة أن اخت الشاعر هي هنا بمثابة الأم، الحاني والرقيب والمساوم حتى في الميراث الشخصي والعائلي، تلك الأخت التي تأخذ مساحة الأم وتدابيرها حين تغيب الأم عن حياة المنزل، وهذه الأخت كما رآها كاتب هذه السطور في مستشفى الجامعة الأمريكية حيث رقد عباس غائباً عن الوعي بعد حادث السيارة الذي تعرض له ليلاً في بيروت، رآها كيف تولول وتنتحب كأنها تنتحب على ابنها الوحيد/ ربما كان عباس ابنها الوحيد أو شقيقها الوحيد أو هو عالمها في النهاية وما تبقى لها هو هذا الكيان الرقيد في المستشفى. في تلك اللحظات التي صادف وجودي في بيروت رأيت الأخت، أي أخت عباس هي أيضاً كانت تسحب رجلها ويبدو هي الأخرى، كانت قد تعرضتْ إلى حادث قبله وهذا ما سيؤكده في القصيدة «لم يعد ذلك النهار الذي تقاسمناه حصصاً / تقاسمنا الشمس والبيت والفناء والغيوم/ حصّتك الأصغر قصمت ظهركِ / لعبنا في الباحة / لكن عذاب الأشقاء يتأخر كثيراً / الماء الذي رميناه من النافذة سقط على حظنا / نجونا من العجلات / لكن خرجنا بحدبة وساقين مكسورين / وقتُ العدالة لم يحن لهذه العائلة».
في النــهــاية تبقى مجموعة «صلاة لبداية الصـقــيع» تشــكــل عودة احتفائية لشاعر مختلف، غــاب عـنّـا وسط ضجيج عالم الرواية العربية الصاخب.
عباس بيضون: «صلاة لبداية الصقيع».
دار الس
اقي، بيروت 2014
80 صفحة
هاشم شفيق
عرض انيق يرقى الى مصاف اناقة الشاعرين