هناك سؤال يعاودني بين الفترة والأخرى كلما اصطدمت بحالة تمييز جندري يتكئ على النصوص الدينية: ماذا لو فسّرت المرأة القرآن؟ ولا أقصد تفسيرا بروح ذكورية تقليدية مثل ما فعلت بنت الشاطئ، بل من منطلقات نسوية غير متأثرة بتأويلات المفسرين الرجال وقراءتهم للنص القرآني، مثلما فعلت الباحثة التونسية ألفة يوسف مثلا في كتابها «حيرة مسلمة» بغض النظر عن النتائج التي وصلت إليها، كيف كانت المرأة ستفسر آيات التعدد والميراث والقوامة؟ ولست أتحدث عن النسويات اللواتي ينسفن التفسيرات الحالية للقرآن والحديث مثل، نوال السعداوي أو فاطمة المرنيسي، بل أقصد باحثات تخصصن في الثقافة الإسلامية، ويفسرن القرآن بالآليات نفسها، مع فارق واحد هو النظر إلى الآيات المتعلقة بالنساء وهن متحررات من قالب ذكوري يصعب كسره.
عاد إلى ذهني بقوة هذا السؤال وأنا أقرأ كتاب الفرنسية تيتيو لوكوك «المنسيات العظيمات… لماذا غيّب التاريخ النساء؟» الصادر هذه السنة عن دار صفحة 7 بترجمة المنتصر الحملي، وقد أحدث الكتاب عند صدوره بلغته الأم قبل ثلاث سنوات ضجة كبيرة وتصدر قائمة أكثر الكتب مبيعا لأشهر طويلة، حيث بيعت منه مئة ألف نسخة في أشهره الأولى.
يصلح أن يلخَّص الكتاب في الجملة الشهيرة «التاريخ يكتبه المنتصرون» وهو محاولة من المؤلفة لقلب رؤية التاريخ، عند النظر إليه من زاوية الجنس الأنثوي، وقد كتبتْ مقدمته المؤرخة والأكاديمية ميشال بيرو واحدة من أشهر المناضلات النسويات الفرنسيات، وجاء في مقدمتها «تيتو ليكوك امرأة حرة وملتزمة، وذات عقلية نهمة وفضولية، وكاتبة راسخة، تقدم لنا سردا رائعا وصادقا»، ولم تجانب المؤرخة الصواب فالمؤلفة التي كانت شرارة البدء في كتابها من فيلم وثائقي عن نساء انتفضن سنة 1966 في مصنع للأسلحة الحربية في بلجيكا، على ظروف عملهن الصعبة وكل مطلبهن كان تطبيق المادة 119 من معاهدة روما، التي تنص على المساواة في الأجر بين الرجال والنساء. هذا الوثائقي أيقظ لدى المؤلفة ذكريات دراستها عندما كانت تقرأ كتب التاريخ المقررة في المدارس الفرنسية، فلا تجد ذكرا لامرأة مشهورة سوى أسطر قليلة، مقابل صفحات طويلة عن الرجال الأبطال. فلم تقتنع أن ذلك كان سهوا، بل وجدته عملا متعمدا لا يكتفي بنسيان النساء، بل يذهب إلى حدّ محوهن. ولم تقتصر تيتيو ليكوك على إعادة بعث شهيرات النساء، وإن كان الظلم قد نالهن أيضا، باختصار أدوارهن وتقزيمها، بل نبشت أسماء لنساء عاديات كنّ على هامش التاريخ من خلال تفصيل مهمل أو «خبر صغير أو قضية قانونية أو رسالة عُثر عليها أو صورة أو قصة».
وترى المؤلفة أن تاريخ المرأة لم يكن يوما خطيا يأخذ منحى تصاعديا، بل هو أشبه بالجبال الروسية في صعوده ونزوله، ووصلت من خلال أدلة أنثروبولوجية وأركيولوجية، إلى أن العصر الحجري القديم تميز بشكل أكبر في المساواة من العصور التي تسمَّت بالنهضة أو التنوير، بل إن الشعوب التي كانت تعتبر همجية، هي أكثر الشعوب مساواة بين النساء والرجال، وللمفارقة كان وضع المرأة سيئا عند الشعوب ذات الثقافة العظيمة، المتمثلة في الحضارتين اليونانية واللاتينية، فقد كانت النساء محرومات من معظم الحقوق.
وتحفر الكاتبة عميقا في التاريخ مستعينة أساسا بكتب لمؤرخات نساء لتصل إلى نتيجة قاسية مفادها «أن أولئك اللائي عملن وحكمن في الماضي وقُدنَ وأبدعن، قد تم تغييبهن من التاريخ. وقيل لنا إنه إذا لم تظهر النساء في التاريخ، فذلك يعود إلى أنهن كن جد مشغولات مع الأطفال والأعمال المنزلية وإعداد حساء البطاطس». وتدحض الكاتبة هذه الأباطيل التي كادت تصبح مسلَّمات بأمثلة تتجاهلها الكتب المدرسية، لأن مؤلفيها رجال ببساطة، فتخبرنا عن أنّ أول نص مكتوب معروف للبشرية كتبته امرأة وهي أنخيدوانا ابنة سرغون الأكادي في بلاد ما بين النهرين، زمن الإمبراطورية الأكادية قبل ثلاثة وأربعين قرنا، وأن فرنسا التي لم تسمح للمرأة بحق التصويت إلا سنة 1944، حكمتها الملكة برونهاوت أربعين سنة في القرن السابع الميلادي، وقامت بإصلاحات تعد الآن معاصرة جدا مثل، جعل العدالة من اختصاص الدولة والمساواة بين الأعراق المختلفة ومنع الزواج القسري من المرأة، كما حاولت إنشاء نوع من الشرطة، بل إن العصور الوسطى التي وصفت بالعصور المظلمة كانت تمارس فيها النساء مختلف الأعمال فنجد منهن المزخرفات وبنّاءات الكاتدرائيات والجرّاحات ورئيسات البلديات، ولم يستبعدن إلا من المهن التي تستدعي تعليما جامعيا.
تورد الكاتبة في مؤلَّفها مقتطفات من كتابات أدباء فرنسا الكبار مثل جان جاك روسو وفولتير ولابرويار، فيها تحقير للمرأة، وتقف مطولا عند موقف أشهر إمبراطور فرنسي هو نابوليون بونابارت الذي قال مرة: «لقد صنعت الطبيعة من النساء عبيدا لنا»، وفي وقته سُنّت قوانين جائرة ضد النساء، فللرجل مثلا أن يختار المسكن ويقرر تعليم الأبناء ويُشترط إذنه لعمل المرأة كما يتقاضى راتبها. كما تعرضت لدور النساء الروسيات في الثورة البلشفية، فهن أول من أطلق شرارتها حين خرجن يوم 8 مارس/آذار 1917 للمطالبة بالسلام والخبز، ولذلك عيّن الاتحاد السوفييتي هذا اليوم عيدا للمرأة، وقد قاتلن في الحرب العالمية الثانية، حيث قدر عددهن
بـ800 ألف امرأة، ولكن نادرا ما تذكر مساهمة المرأة في الحروب، ما استدعى خروج الفرنسيات سنة 1970 في مظاهرة رافعات شعار «هناك مجهول أكثر من الجندي المجهول: زوجته».
حينما قرأت ما كتبته مؤلفة الكتاب عن الكاتبة المسرحية كاترين برنار تذكرت الظلم الكبير الذي تعانيه الكاتبات العربيات المتميزات، فكاترين كانت كاتبة مجيدة لها مسرحية بعنوان بريتيس كتبتها سنة 1690 وكانت أول كاتبة مسرحية تمثل مسرحياتها في الكوميديا الفرنسية ـ لكن المشكلة أن مسرحيتها بعد سنوات نسبت إلى كاتب يدعى برنارد دو فنتينيل، وحين لاحظ النقاد تشابها بين مسرحية للكاتب الفرنسي الكبير فولتير ومسرحية بريتيس أكد فولتير «أنّه على أي حال لم تكن كاترين برنار هي من كتب بريتيس، وأن فونتينال هو من ألّف العمل في الواقع»، فحتى لو كان ذلك يعني اتهامه بالسّرقة الأدبية، فالأفضل أن يكون منتحلا لرجل وليس لامرأة. وليست كاترين برنار حالة شاذة فكثيرات مثلها سُرقت نصوصهن ونسبت لكتّاب رجال أو أغفلت من الأسماء حتى كتبت فيرجينيا وولف مرة: «أي امرأة ولدت في القرن السادس عشر وكانت ذات موهبة رائعة، كانت لتصاب بالجنون وتقتل نفسها»، أليس هذا عين ما تعرضت له واحدة من أشهر الروائيات العربيات أحلام مستغانمي في «ذاكرة الجسد» فبحث من استكثروا على المرأة الإبداع عن آباء متخيلين للرواية من نزار قباني إلى سعيد يوسف، متبنين فكرة عنصرية ضد النساء تقول، إن وراء كل امرأة مبدعة رجلا يكتب لها. لأن الكاتبة في نظرهم لا ينطبق عليها سوى حكم الفرزدق حين قيل له إن فلانة تقول الشعر، فأجاب: «إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها».
وهذا الذبح المعنوي ساعدت عليه اللغة أيضا حين تحيزت للرجل، وكأن اللغات تواطأت على ظلم المرأة، فقاعدة التغليب في اللغة العربية حين يُغلَّبُ المذكر الواحد على جميع النساء، إذا اجتمعا في جملة واحدة كقولنا «كان الرضيع وملايين النساء يبكون» وليس يبكين، نجد تيتيو لوكوك تذكر مثيلا لها في اللغة الفرنسية تسميه الترتيب الجواري، فقد أرست الأكاديمية الفرنسية بدورها أيضا قاعدة في القرن السابع عشر تقول: «يغلب المذكر المؤنث بغض النظر عن العدد».
تصف لوكوك كتابها في الفصل الأخير الذي عنونته بـ«محاربة النسيان: إعادة اكتشاف لتاريخ النساء» بأنه محاولة لمحاربة صندوق النسيان الذي ألقيت في داخله النساء منذ قرون عديدة، وتضع الرجال أمام مسؤولياتهم حين تختتم كتابها بهذه الدعوة الصريحة: «تاريخ المرأة ليس فقط تاريخ النّساء. إنّه أيضا تاريخكم، أيّها السادة. فأنتم أيضا أحفاد هؤلاء النساء اللواتي تم نسيانهن وإسكاتهن. فلا تتركوهن يختفين من جديد. فمن دونهن لسنا مكتملات ولا مكتملين».
شاعرة وإعلامية من البحرين