أقام الكاتب اللبناني حازم صاغية (في مقالة نشرت مؤخرا بعنوان «حين تكون الهزائم ولا تكون») مقارنة بين الحالة الراهنة في الوضع العربي الحالي الذي تمثله حربا غزة ولبنان، وما حصل بعد هزيمتي 1948 و1967، خالصا إلى أنه رغم الاختلافات الحادة في الآراء التي انتشرت بعد الهزيمتين المذكورتين، فإن «القاسم المشترك بين الجميع تقريبا» في الحدثين السابقين كان «إقرارهم بالهزيمة»، فيما أنه «اليوم ليس هناك أي إقرار كهذا».
تناقض المقدمة التي كتبها صادق جلال العظم، لطبعة صدرت عام 2007 من كتابه الشهير «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، فكرة صاغية. يقول العظم إن اسراعه في إصدار الكتاب، الذي طبعته «دار الطليعة» بعد عام من حرب 1967، كان سببه أن «حالة من الإنكار البائس والهروب اللامسؤول واللامعقول قد سيطرت فورا على المهزومين، شبيهة بتلك الحالات التي تنتاب بعض المرضى الذين يعجزون عن الإقرار لأنفسهم بمرض فينكرون واقعة المرض سلوكا وتعبيرا وتمويها وهلوسة لأن واقع الحال يحملهم ما لا يُطاق».
يؤكد العظم أن تلك الحالة من عدم الإقرار هي التي دفعته إلى «الإصرار الشديد على استخدام تعبير «الهزيمة» لوصف ما حدث بدلا عن عبارة «النكسة» التي كانت قد دخلت حقل التداول الرسمي والفكري والشعبي بغرض تمويه حقيقة ما حدث».
يورد العظم عدة أمثلة على رفض الاعتراف بهزيمة 1967 منها مقالة لمحسن إبراهيم، الذي كان أحد قادة القوميين العرب في لبنان، نشرت بعد أيام فقط من انتهاء حرب 1967 بعنوان: «كلا لم يخطئ عبد الناصر ولم يُهزم العرب»، ليخلص إلى أن «كل من عاصر تلك الحقبة البائسة والمعتمة يذكر بلا شك ما كان يتكرر على أسماعنا ليلا نهارا من أن «النكسة» أخفقت في تحقيق أهدافها».
ليست الأمور، المعقودة بهذه الصيغة التي تبدو نوعا من التقريظ لحال النخب العربية بعد 1948 و1967 والترذيل لحالها في الحقبة الراهنة، بتلك البساطة والقطع، وربما كان أجدى (ولو أقل بلاغة) في تحليل الأوضاع الراهنة أن يتم ربطها بالأوضاع الآنفة، وتجنّب هذه «القطيعة» المفترضة بين المراحل والنخب والأفكار، فزمن الميليشيات الحالي، كما يوصّفه صاغية، ليس إلا زمن الدول الفاشلة وقد بلغت انحطاطها، وليست أفكار النخب الحالية إلا أفكار النخب السابقة وقد انعكست أحوال زماننا البائسة أكثر عليها.
يقينيات تعلو وأخرى تنخفض!
بحث الكاتب السوري عمر قدور، في عمود له بعنوان «مقال لمن ليس لديه جواب» جذور تلك الآراء التي ظهرت خلال «المقتلة الحثيثة في غزة، ثم في لبنان» ملاحظا أن أطراف الجدل «الدموي» الجديد «لديهم فائض من اليقينيات» تعود بمعظمها إلى ثلاثة عقود أو أكثر، كان الجديد منها فكرة «ان الغرب يريد ترويج الديمقراطية»، وفكرة إعادة النظر في الحقبة الاستعمارية، وتندرج ضمنها فكرة السلام مع إسرائيل. أسقط الواقع، حسب قدور، هاتين الفكرتين لكن أصحابهما ما زالوا، مثل أصحاب اليقينيات السابقة عليهما (أصحاب مدارس الفكر السابقة من ماركسيين وقوميين وإسلاميين)، لم يقوموا بالتشكك فيهما ومراجعتهما.
يقارب الكاتب اللبناني زياد ماجد، في مقالته المعنونة «ممانعون وخصوم لهم يتشابهون ويتقاذفون البديهيات»، القضية الآنفة أيضا، فيرى أن المشهد السياسي والثقافي العربي يخضع لسطوة مقولات بعضها متداول ومكرر منذ عقود من دون أن تؤثر فيها المآسي والتدمير وسقوط عشرات آلاف الضحايا وتشريد الملايين، فيكرر «محور الممانعة» إعلان تسجيل الانتصارات، فيما يركز خصومه على تحميل «حماس» و»حزب الله» المسؤولية في تبعات الحرب لكونها قامت باستدراج إسرائيل. يعتبر الطرف الأول «المقاومة» عنوان السياسة الأوحد، بمعزل عن الظروف والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويقوم الطرف الثاني باعتبار الانقسامات الوطنية والأهلية موضوع السياسة «الذي لا تعدل حرب إبادة أو أحداث استثنائية الموقف منه أو من موقعه في سلم الأولويات».
يلاحظ ماجد تشابها بين الممانعين وخصومهم في «صلاتهم الركيكة بالثقافة الحقوقية» فلا الأولون يقبلون بالتمييز بين المدنيين والعسكريين ولا خصومهم يكترثون بمدلولات توصيف الحرب الإسرائيلية بحرب إبادة جماعية.
كشفت الحرب، على ما يرى ماجد، «تهافت الممانعين وشعبويتهم المبتذلة التي سبق ان غطت فظائع الحرب السورية»، ولكنها أيضا «كشفت بشكل خاص تهافت خطاب تيارات وأفراد عدوا أنفسهم ليبراليين وتقدميين وديمقراطيين».
«كلّ العرب» يتحمّلون وزر الهزيمة!
كان مفيدا في سياق المقارنات، ما أوردته مقالة لشاكر جرار بعنوان «هزيمة من؟ نقد المنهج الثقافوي في تحليل أسباب هزيمة 1967» نشرت عام 2017 (في الذكرى الخمسين لهزيمة 1967) يوضّح الكاتب الطابع الثقافوي الذي ساد النخب العربية بعد الهزيمة والذي اعتبر أن الذي هزم في الحرب هم «العرب» كما فعل محمد النويهي الذي قال في مقالته «والآن الى الثورة الفكرية» إن «وزر تلك الهزيمة يعود علينا كلنا، نحن العرب، لا حكاما فحسب بل محكومين أيضا»، وكذا اعتبار ميخائيل نعيمة في «درس الهزيمة الأكبر» أن الدروس التي يجب على «العرب ان يتعلموها من هزيمتهم النكراء أن الدنيا لا تساس بالدين»، وقول ياسين الحافظ في كتابه «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة»: «لم يكن المهزوم طبقة بل مجتمعا»، ورأي أدونيس في مقال بعنوان «بيان 5 حزيران 1967» في أنه يجب إعادة النظر «في هذا الإنسان، قبل إعادة النظر في الحياة العربية». وفي هذا الهوى الثقافوي من «النقض الذاتي» بعد الهزيمة، التقى، من طرق مختلفة، الماركسيون و»العقلانيون» والعلمانيون العرب مع خصومهم الإسلاميين في رد القضايا إلى أصول جوهرانية.
يقول جرار إن فكر الإنسان العربي، حسب هؤلاء، ينتقل من الماضي الى الحاضر بالوراثة لكونه عربي فقط، وأن المشكلة هي في العربي «القابل للاستعمار» لا بوحشية الاستعمار وطرائقه. بهذه التحليلات الثقافوية، التي ترى فكر الإنسان العربي غيبيا وميتافيزيقيا، تحول الخطاب الثقافوي إلى خطاب ديني بدوره يرد الهزيمة الى «أصل» واحد لا تاريخي هو ذات واحدة لا تمايز فيها ولا تتغير والتعاطي معها بمعزل عن الواقع والبنية الاجتماعية السياسية وحركتها التاريخية.
يوم غزا الإسلام بلادنا!
انبعث هذا النقد الثقافوي حاليا بأشكال أكثر تطرفا حتى، وعلى طريقة وسائل التواصل الاجتماعي من الاستسهال في التقييم والاستنتاج، ورأيت أن أجلى مثال عليه استشهاد للكاتب السوري خليل حسين، على صفحته في فيسبوك، بفقرة نقلها كما قال من «واتساب» الأكاديمي السوري الكردي د. سربست نبي يقول فيها: «*بدأت نكبتنا الحضارية يوم غزا الإسلام بلادنا، فقدنا هويتنا التي ميّعت وحُرفت وتحولنا إلى جماعات عرقية متشظية، تعثر تقدمنا، صودر وعينا بذاتنا وبدورنا التاريخي، شوّهت ثقافتنا ولغتنا وإرثنا الروحي. لن نصبح أمة ونستعيد مكانتنا مالم نتخلص من عواقب ونتائج كل ذلك، مالم نعلن القطيعة مع الإسلام كأيديولوجيا وهوية سياسية وثقافية. حدث الأمر نفسه، وبدرجة أقلّ كارثية، مع شعوب بلاد الشام والرافدين…».
شهدنا أيضا أشكالا من العودة إلى الركوب السهل على السرد الطائفي، على ما فعل الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي خلال فعالية له في العراق اعتبر فيها، على لسان السيدة زينب كما قال، الأمويين «بلا شرف»، ولم يكن مدهشا، في صفحة عامة عراقية على «فيسبوك»، أن يحصل تقريظ التميمي بقرابة ثلاثة ملايين «إعجاب» وأن يصفه كثيرون، لهذا التعريض البائس بالذات، بأهم شاعر في تاريخ العرب!
استخدم خصوم الأيديولوجيا والسياسة والخنادق منطقا بسيطا متشابها، مثاله عند أنصار ما يسمّى «محور الممانعة» القول إن الأمور أبيض واسود، فإذا لم تقف مع هذا المحور، حتى لو كانت ميليشياته تقصف أطفالك في سوريا، وتفسد اقتصاد وسياسة لبنان والعراق، فأنت «متصهين»، ومثاله عند أنصار خصوم المحور إنه إذا أدنت الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين واللبنانيين فأنت «عميل لإيران». انخرط مجمل الكتاب العرب، منذ اندلاع الأحداث الجارية في تحليلها، ولكن ضراوة «نقض» الثقافة، على ما رأيناه بعد 1967 وأشكال الاختلاف حول توصيف وقراءة هذه الحروب بلغت مبلغا هائلا من الضراوة استخدمت، في ما يشبه تقليد للمعارك العسكرية الدائرة، «كافة أنواع الأسلحة» السجالية، من استدعاء المنطق والتاريخ والجغرافيا إلى استحضار الأيديولوجيات والأديان والطوائف، في خط بياني متناظر بشكل كبير مع القمع المادي الجاري، وما فيه من أشكال الاستئصال والنزوع إلى إبادة الخصم!
كاتب من أسرة «القدس العربي»