لم يعد في قطاع غزة أي وجود للمعالم والمواقع الأثرية العريقة، بعد أن دمر الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب المستمرة على القطاع جميع المدن والأحياء التي تضم تلك المواقع، وأبرز المعالم وأكثرها أهمية وعراقة في القطاع، بهدف تدمير التاريخ الفلسطيني المتجذر، ضمن استهداف مبرمج لطمس الوجود الثقافي والتراثي الفلسطيني، حيث تعود أصول بعض المواقع الأثرية التي دمرها الاحتلال إلى العصور الرومانية والكنعانية ومر عليها ما يقارب من 1400 عام. وهذا الدمار لم يكن غير مقصود بل تعمد الاحتلال الإسرائيلي استهداف المواقع الأثرية في كافة مناطق قطاع غزة، حيث قدر الدمار وفق أرقام أولية بأكثر من 200 موقع أثري منذ بداية الحرب، عدا عن سرقة عناصر الجيش العديد من القطع الأثرية خلال عملية الاجتياح البري بعد اقتحام البيوت القديمة والكنائس والقلاع، قبل أن يقدم على قصف وهدم هذه المواقع بشكل كامل لإخفاء جرائمه، وهو ما شكل خسارة كبيرة للموروث الثقافي الفلسطيني.
وكان قطاع غزة على مدى العصور القديمة مركزاً مهماً للثقافة والتجارة، مروراً بالحقبة الكنعانية والرومانية والبيزنطية، انتهاءً بالعديد من الحضارات القديمة التي تركت آثاراً تدل على عمق وعراقة المكان تاريخياً، لكن الحرب الإسرائيلية دمرت العديد من هذه المواقع، حيث كشف الانسحاب الإسرائيلي من حي الزيتون عن حجم الدمار الهائل الذي أصاب المواقع الأثرية والثقافية التاريخية، حيث يعتبر حي الزيتون وحي الدرج وسط قطاع غزة، من الأحياء القديمة التي تضم العشرات من المواقع الأثرية من متاحف ومساجد وكنائس ومقابر وأديرة ومنازل وحمامات، فقد تعرض أكثر من 150 موقعا داخل حي الزيتون والدرج ومنطقة الساحة القريبة من تلك الأحياء للدمار الكامل.
دمار أقدم المساجد والكنائس والحمامات
ودانت وزارة السياحة والآثار في حكومة غزة تدمير الجيش الإسرائيلي مواقع أثرية وتاريخية بعد قصفها المتعمد، وجاء التنديد بعد الدمار الكبير الذي لحق بأقدم المساجد والكنائس والحمامات التاريخية، كما دعت الوزارة منظمة اليونسكو للثقافة والعلوم والتراث، للعمل على الحفاظ على ما تبقى من كنوز تاريخية في قطاع غزة، والمنظمة بدورها أعربت عن قلقها الكبير إزاء التأثير السلبي للقتال على التراث الثقافي في قطاع غزة، في حين لم تستطع المنظمة بسبب القتال الدائر مسح مدى الضرر الذي لحق بالمواقع التراثية والثقافية، مؤكدةً على أن سكان غزة لديهم الحق في الحفاظ على تراثهم وتاريخهم، إلى جانب دعوة إسرائيل إلى ضرورة الالتزام بالقانون الدولي، وعدم استهداف الممتلكات الثقافية أو استخدامها لأغراض عسكرية. وإلى جانب الدمار الهائل الذي لحق بالمعالم الأثرية في البلدة القديمة، تعرضت معالم ورموز تاريخية وثقافية للتدمير الجزئي والكلي في مناطق عدة من القطاع، حيث تعرض متحف خانيونس لدمار كبير من جراء قصف الطائرات منازل سكنية مجاورة له، حيث أنشئ المتحف الذي يضم قطعا أثرية تعود لعصور ما قبل العصر الحديث بجهود ذاتية، ويضم قطعا تعود للحقبة الرومانية واليونانية والبيزنطية والأيوبية والعثمانية، إضافة إلى نقود أثرية تعود للحقب المذكور، كما وتحطمت داخل المتحف العديد من القطع الفخارية الأثرية. وبالإضافة إلى المتحف فقد قامت قوات الاحتلال بتدمير وتجريف قلعة برقوق الواقعة في قلب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، وتعتبر القلعة حصنا يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقد تم تشييدها في عهد السلطان المملوكي برقوق، حيث استخدم هذا الحصن من قبل التجار المتنقلين بين مصر ودمشق، ولكن مع التوغل البري لمدينة خانيونس، تم تدمير القلعة التي تعتبر من أبرز الرموز التاريخية العريقة لمدينة خانيونس.
ولم يقتصر الدمار الذي لحق بالمعالم الأثرية على منطقة غزة القديمة المتمثلة بأحياء الزيتون والدرج فقط، بل أن مدينة خانيونس ودير البلح تعرضتا لدمار كبير، وطال هذا الخراب أهم الأماكن الأثرية فيها، فمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة تعتبر ثاني أكبر مدن غزة من حيث المساحة الجغرافية والأماكن الأثرية العريقة، حيث كانت مشاهد الدمار فيها واضحة من جراء عمليات القصف والتجريف الواسعة من قبل الجيش، وتعرضت متاحف ومساجد عريقة ومقابر تاريخية لدمار شبه كامل في مختلف مناطق المدينة، بالإضافة إلى الحاق الضرر بعدد من الأديرة المتواجدة في مختلف مناطق المدينة، إلى جانب تدمير الطائرات لأسواق وبيوت قديمة، كما دمر الاحتلال مقبرة دير البلح الواقعة إلى الشرق من المدينة، وتعتبر من المقابر التاريخية الأثرية التي تعرضت لدمار كامل من جراء قصفها من قبل الطائرات الحربية والمدفعية، وتضم المقبرة التي يعود تاريخها إلى العهد البرونزي توابيت فخارية على شكل بشري، وتعتبر المقبرة مزاراً للوافدين من الخارج وبالتحديد الفرق العربية والدولية المختصة بالتنقيب عن الآثار، إلى جانب ذلك تعرض موقع تل رفح الأثري والذي يعود تاريخه إلى العصر الكنعاني ويضم العديد من الكنوز الأثرية، عدا عن احتوائه على العديد من القطع والعملات النادرة داخل الموقع، للتدمير الكلي من قبل الطائرات الحربية، ويعتبر هذا التدمير خسارة كبيرة لأهم موقع يضم كنوزا أثرية عريقة وقديمة، تعمد الاحتلال تدميرها بهدف إخفاء المعالم التاريخية التي يحتويها الموقع.
ونددت وزارة السياحة والآثار في حكومة غزة بتدمير الجيش الإسرائيلي مواقع أثرية وتاريخية بعد قصفها المتعمد، حيث جاء التنديد بعد الدمار الكبير الذي لحق بأقدم المساجد والحمامات التاريخية، كما جددت الوزارة دعوتها لمنظمة اليونسكو للثقافة والعلوم والتراث، بالعمل على الحفاظ على ما تبقى من كنوز تاريخية في قطاع غزة.
ومن أهم المواقع التاريخية التي تعمد الاحتلال الإسرائيلي تدميرها منذ بداية الحرب في منطقة غزة القديمة على وجه التحديد:
المسجد العمري الكبير
يعتبر من أقدم المساجد وأعرقها في فلسطين ويقع في حي الدرج شرقي مدينة غزة. تم تأسيسه قبل أكثر من 1400 عام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ويعد ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجد الأقصى ومسجد أحمد باشا الجزار، ويقع المسجد العمري الكبير في قلب مدينة غزة القديمة، وبني المسجد من الحجر الرملي الكركي.
قصر الداية
يعتبر قصر الداية ثاني أكبر القصور العريقة والتاريخية بعد قصر الباشا والذي يتوسط حي الزيتون وسط مدينة غزة، ويعود تاريخ تشييد القصر إلى العهد العثماني، ورغم مرور الزلازل والتقلبات الجوية والحروب السابقة، إلا أن القصر المدعم بألواح خشبية ومعدنية بقي صامداً، لكن الاحتلال الإسرائيلي دمر القصر خلال الحرب الدائرة، بعد أن استهدفته الطائرات الحربية وسوته بالأرض.
سوق قيسارية
يعتبر السوق الأثري تحفة معمارية عريقة، يعود تاريخه إلى العهد العثماني، ويقع بجانب المسجد العمري الكبير من الجهة الغربية، ويشكل مقصداً لجميع سكان غزة الذين يحرصون على زيارة المكان سواء لشراء الذهب أو التمتع بمشاهد السوق الذي يتكون من ممر ضيق مسقوف بقبو مدبب طوله تقريباً 60 متراً وعرضه لا يتجاوز 3 أمتار، لكن الاحتلال خلال الحملة البرية الأخيرة على حي الرمال، قام بتجريف السوق الأثري وتحويله إلى كومة من الرماد بشكل متعمد، لتخسر غزة معلما جديدا هو الوحيد من حيث الطابع المعماري.
قصر الباشا
يعتبر قصر الباشا من أهم المباني الأثرية التي بنيت في عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، وقد بناه الأمير جمال الدين الشقيقي عام 1260 بأمر من السلطان بيبرس، وتأثر القصر بالعمارة العثمانية حيث كان يستخدم سابقاً مركز إدارة مدنية لحكم غزة، ومن ثم تحول إلى سجن ومن ثم إلى مؤسسة تعليمية، وخلال عام 2010 خضع لأعمال ترميم أعادته إلى حالته الأصلية، وتحول إلى متحف تعرض فيه قطع أثرية من حقب تاريخية مختلفة منها اليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، وكان القصر يستقبل عشرات الآلاف من الزوار الفلسطينيين والأجانب، لما يحتويه من زوايا تاريخية وجمالية، لكن خلال الحرب المستمرة على القطاع، أقدم الاحتلال الإسرائيلي على قصف القصر وتدميره بشكل كامل، ليفقد الحي معلما أثريا تاريخيا عريقا إلى جانب العديد من المعالم المنتشرة في مختلف مناطق قطاع غزة والتي دمرت بشكل متعمد.
سوق الزاوية
يعتبر سوق الزاوية الملاصق للمسجد العمري، من أقدم الأسواق الشعبية وشاهدا على تاريخ غزة القديم، حيث ينقسم السوق الذي يأخذ نمطاً معمارياً هندسياً يلائم الأجواء وظروف المناخ إلى ما يقرب من 18 زاوية، كل زاوية تخص نوعا معينا من المنتجات والسلع، ويحظى السوق باهتمام الغزيين الذين يتوافدون إليه يومياً، ويتميز بأنه جامع لكل طبقات المجتمع الفلسطيني طوال العام.
حمام السمرة
يعتبر حمام السمرة الواقع في حي الزيتون وسط غزة، من أقدم الحمامات التي بنيت في غزة، حيث يأخذ تاريخ بنائه النموذج الوحيد المتبقي من الحمامات الأثرية، بعد أن كان قطاع غزة يحتوي على العديد من الحمامات التي اختفت مع مرور الزمن إلى عام 1300. وقد استمر العمل فيه وتم تجديده خلال الحكم العثماني، وكان الحمام قائما إلى ما قبل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد إجراء عدة ترميمات عليه، حيث كان يعتبر معلماً تاريخياً ومزاراً طبياً ومتنفسا يلوذ إليه السكان في غزة، كما أن الزوار من الخارج يحرصون على التوجه للحمام للخروج من ضغوط الحياة وتفريغ الطاقة السلبية من خلال جلسات الاسترخاء وتجديد النشاط الجسدي، لكن الطائرات الحربية دمرت بعدد من الصواريخ الحمام الممتد على مساحة 500 متر.
وفي تعقيب له على حجم الدمار والتغول الإسرائيلي بحق المعالم والكنوز التاريخية في قطاع غزة، يقول المسؤول عن آثار ومواقع غزة التاريخية الدكتور جمال أبو ريدة إن الاحتلال يستغل الحرب في تدمير الموروث الثقافي داخل قطاع غزة، خاصة وأن القطاع يضم كنزا كبيرا وثمينا من المواقع التاريخية العريقة الممتدة لمئات السنوات، ويحاول من خلال ما يفعله طمس تاريخ غزة القديم، وهذا ما بات واضحاً من القصف المتواصل والمتعمد للمراكز والمكتبات والمواقع التاريخية المنتشرة في مختلف مناطق القطاع.
وأشار في حديثه لـ«القدس العربي» إلى أن إسرائيل حاولت بكافة الطرق سرقة تاريخ غزة والعمل على طمسه سابقاً، لكن لم تجد مساعيها نفعاً على مدار السنوات الماضية، فاتجهت إلى سياسة كي الوعي الثقافي للشعب وقطع صلة السكان في غزة عن تلك المواقع، من خلال تدميرها وحرق مقتنياتها العريقة كي لا تكون شاهدة على تاريخ غزة وفلسطين بشكل عام.
ولفت إلى أن الشعب الفلسطيني ما زال يحتفظ بتاريخه رغم كل محاولات السرقة والإخفاء التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي، فرغم الدمار الذي تعرضت له العديد من المواقع التاريخية، إلا أن التاريخ سيبقى حاضراً، وسيحتفظ الكبار بتاريخ غزة وينقلونه إلى الأجيال القادمة كي يبقى راسخاً في عقولهم.