القاهرة ـ «القدس العربي»: وقائع عدة شهدتها مصر خلال الفترة الماضية، أثارت مخاوف المصريين ووجهت اتهامات للسلطة بتخريب آثار وتراث البلاد.
فما بين هدم مقابر تاريخية لتشييد جسور ومحاور مرورية وهدم مطرانية ملوي التاريخية في محافظة المنيا، وصدور قرار بهدم متحف أحد الفنانين التشكيليين، وطلاء تماثيل تاريخية باللون الأسود في إطار خطة صيانة 21 تمثالا في القاهرة، تصاعدت حدة غضب المصريين ومخاوفهم على تراثهم التاريخي.
وطالبت أحزاب ونقابات مهنية وشخصيات عامة بوقف هدم المقابر التاريخية، وقالت في بيان، إن جبانات مصر التاريخية تتعرض منذ أربع سنوات لموجات من التدمير الممنهج على مراحل متتالية، وإن تلك العمليات تتوقف مؤقتًا مع تصاعد الرفض المجتمعي الذي يعبر عنه الفزع من مشاهد الجرافات وهي تزيل حجارة يعود عمرها لأكثر من ألف عام، وتدك عظام الموتى بقسوة وعنف غير مسبوقين، من دون أي اعتبار للتاريخ أو الأعراف الإنسانية أو الديانات السماوية.
ووقع على البيان أحزاب التحالف الشعبي الاشتراكي، والمصري الديمقراطي الاجتماعي، والدستور، والاشتراكي المصري، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
وأضاف البيان: بات مشهد الجرافات التي تهاجم المواقع التراثية المقدسة لدى المصريين بكل أطيافهم وانتماءاتهم، وتنشر الدمار والخراب، يثير الحزن والأسى، وكأننا نشهد ساحة معركة.
وأكد أن المشاهد الصادمة الموثقة تُظهر قبابًا فريدة تتحطم في لحظات، وشواهد تحمل آيات قرآنية وأقوالًا وأشعارًا متناثرة وملقاة على الأرض، وسط أنقاض من الحجارة وجذوع الأشجار الممتدة على مدى البصر. تلك المدافن التي كانت بالأمس مثوىً أخيرًا لأجدادنا وأنيقة في هيئتها، ستظل عالقة في ذاكرة الأجيال القادمة كتذكار لعصرٍ دمر فيه البعض تراثًا حافظ عليه السكان الأصليون والغزاة على حدٍ سواء على مرّ القرون.
ولفتت إلى انه خلال السنوات الماضية، تعرضت عشرات المدافن ذات القيمة المعمارية والمعنوية للهدم، وهي جزء من نسيج متجانس حافظ على هويته المتفردة طوال القرنين الماضيين. وفي مواجهة ردود الفعل الغاضبة الرافضة لضياع هذا التراث المصري الأصيل، ودرءًا لمخاطر القضاء على حقب مهمة من تطور العمارة الجنائزية في مصر ومحو ذاكرة المكان وأعلامه المدفونين في ثرى جباناتها التاريخية، يتم الآن تنفيذ تراجع تكتيكي كما في المرات السابقة، مع الإعلان عن توقف الهدم مؤقتًا، من دون تقديم أي تبرير لهذا الدمار الشامل، الذي طال أهم المدافن ذات القيمة الكبيرة، وخاصة تلك المدرجة على قائمة جهاز التنسيق الحضاري في العام الماضي. هذا يدفعنا للتساؤل عن الهدف الحقيقي وراء هذا الاستهداف المتعمد والإصرار عليه، بل وعن سبب إخراج نصف المدافن المسجلة من قائمة الجهاز تمهيدًا لإزالتها. وتابع: هذه الهجمة على جبانات القاهرة التاريخية لا تملك أي مبرر منطقي، خصوصًا في ظل وجود بدائل للإزالة قدمتها لجنة شكلها مجلس الوزراء من متخصصين في التخطيط العمراني والحفاظ على التراث عام 2033 برئاسة وزير التعليم العالي، وأجرت اللجنة دراسة لجدوى مشروع الطرق والكباري المقترح من الحكومة والذي بدأ تنفيذه في 2020 وأثبتت أنه غير مجدٍ لأنه لا يوفر سوى دقيقتين من وقت الرحلة، كما قدمت اللجنة مشروعًا بديلًا يعتمد على استغلال شبكة الطرق الحالية والمستحدثة بدون المساس بالجبانات التاريخية.
وواصل البيان: أثبتت اللجنة أن اقتراحها لحل مشكلة الحركة سيظل صالحا لعشر سنوات قادمة، بل قدمت تصورًا لاستغلال الموقع للسياحة الدينية والثقافية من خلال إنشاء مسارات وحل مشكلة ارتفاع منسوب المياه الجوفية، وغيرها.
وطالب باستعادة اللجنة المشكلة سابقا للبدء في تنفيذ المشروع الذي اقترحته اللجنة وتمت الموافقة عليه، مع الأخذ في الاعتبار التغيرات المؤسفة التي حدثت العام الماضي، وإلغاء مشروع المحاور المرورية الحالي وإحلال مشروع اللجنة البديل محله، والتخلي عن مشروع إزالة الجبانات التاريخية للقاهرة المقترح ضمن المخطط الاستراتيجي للقاهرة، وإعادة المدافن المشطوبة، التي لم تزل بعد، إلى قائمة جهاز التنسيق الحضاري، وإعادة تركيب المآذن الأربع التي تم فكها في قرافة السيوطي، وهي: مئذنة الغوري، ومئذنة المسيح باشا، ومئذنة السلطانية، ومئذنة قوصون الساقي.
كما طالب البيان بمنع سرقة العناصر المعمارية الثمينة من المدافن التاريخية وفرض أقصى العقوبات على تجار الشواهد والتركيبات الفريدة بجميع أنواعها.
ودعا البيان كل شرفاء الوطن الوقوف ضد هذه الجريمة التي تستهدف جزءًا عزيزا بل مقدسا من تراثنا الثقافي، و«نطالب بوقف الهدم بشكل كامل في جبانات القاهرة التاريخية».
وكانت محافظة القاهرة قد أصدرت قراراً بتعليق عمليات دفن الموتى في اثنتين من أشهر مقابرها التاريخية تقعان في نطاق محور صلاح سالم المروري الجديد، وهما مقبرة الإمام الشافعي ومقبرة السيدة نفيسة، تمهيداً لإزالتهما، ونقل رفات المتوفين فيهما إلى مدافن التعويضات البديلة في مدينة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية.
ودفعت احتجاجات شعبية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تأليف لجنة خبراء في حزيران/يونيو 2023 الهدف منها التوصل إلى رؤية متكاملة لتطوير المنطقة، ودراسة نقل المدافن الأثرية من السيدة نفيسة والإمام الشافعي، وتجميع رفات الرموز المصرية فيما يعرف باسم «حديقة الخالدين» بالعاصمة الإدارية الجديدة، وإنشاء متحف ملحق بها يضم القطع الفنية والأثرية الموجودة في تلك المدافن للحفاظ عليها. وتأتي عمليات الإزالة التي طالت مقابر تاريخية في وسط القاهرة، ضمن مخطط القاهرة 2050 الذي أطلقه رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، حين كان رئيساً لهيئة تطوير المجتمعات العمرانية عام 2009.
وبدأت أزمة هدم المقابر التاريخية في 24 تشرين الأول/اكتوبر 2021 وتم كشف مذكرة بشأن المدافن التي وقعت في نطاق الإزالة في مشروع تطوير محور صلاح سالم من محور جيهان السادات حتى حديقة الفسطاط بامتداد 6 كيلومترات، تتخللها جبانات المجاورين وباب الوزير وسيدي جلال والسيدة نفيسة والطحاوية والإمام الشافعي وسيدي عمر.
وفي عام 2020 أثير جدل بشأن عدد من المقابر في منطقة منشية ناصر في قلب القاهرة التاريخية، يُزعم أنها «جبانة المماليك» وتعود لنحو 5 قرون من أجل إنشاء جسر، وتعد مقابر المماليك أقدم جبانة إسلامية في مصر، وتحتل موقعا متميزا وسط العاصمة.
متحف نبيل درويش
معاول الهدم لم تقتصر على المقابر فقد فوجئ المصريون بقرار حكومي يهدف متحف الفنان نيبيل دوريش في محافظة الجيزة لاستكمال نزلة محور المريوطية في الطريق الدائري.
وفي الوقت الذي بدأت فيه الجرافات هدم مخزن تابع للمتحف استعدادا لهدمه بالكامل، طالبت أسرة الفنان نبيل درويش الحكومة والجهات المسؤولة بحماية المتحف من الهدم، والبحث عن حلول تحافظ على مقتنيات المتحف، وقد أكدت نقابة الفنانين التشكيليين تضامنها الكامل مع مطلب أسرة ومحبي الفنان الراحل نبيل درويش.
ويضم المتحف 3500 قطعة خزفية فريدة إلى جانب مرسمه الذي عمل به طوال حياته، كما يضم المتحف أيضاً حديقة منزل الفنان، الذي أصبح مزاراً فنياً وسياحيا لكل المهتمين بفنون الخزف من مختلف دول العالم.
مطرانية ملوى
لم يقتصر الأمر على العاصمة، بل طالت خريطة الهدم مطرانية في محافظة المنيا ـ وسط مصر، ما دفع النائبة سميرة الجزار، للتقدم بطلب إحاطة إلى رئيس مجلس النواب بشأن هدم المطرانية، التي وصفتها بأنها تحفة معمارية للفن القبطي وذات قيمة تاريخية وثقافية عميقة.
ولفتت الجزار، في طلب الإحاطة، إلى أن القرار أثار استياءً واسعًا، مؤكدة أهمية الحفاظ على المعالم الدينية والثقافية. ودعت الجزار إلى فتح تحقيق عاجل لتحديد المسؤولين عن القرار ومعرفة أسبابه، وطالبت بعرض نتائج التحقيق في الجلسة العامة لمجلس النواب.
كما طالبت باستدعاء، رئيس الوزراء ووزيرة التنمية المحلية للمناقشة حول القرارات التي تتخذها الحكومة دون حوار مسبق مع الشعب أو ممثليه في البرلمان.
وأكدت أن أي قرار بشأن هدم مبنى ذو قيمة تاريخية أو دينية أو أثرية يجب أن يتم بعد الرجوع إلى مجلس النواب، مؤكدةً ضرورة تجريم هدم المباني التاريخية أو الأثرية إلا بعد موافقة البرلمان، لضمان حماية التراث المصري.
اسود قصر النيل
أما آخر الانتقادات التي واجهتها السلطة، جاءت بعد انتشار صور لاسود جسر قصر النيل في القاهرة بعد طلائها باللون الأسود.
وأعربت نقابة الفنانين التشكيليين المصريين عن تخوفها من أعمال صيانة اسود قصر النيل ضمن خطة لصيانة 21 تمثالا في الميادين العامة في القاهرة أعلنت عنها محافظة القاهرة ووزارة السياحة والآثار.
وقالت النقابة في بيان، إن الشروع بدأ بتنفيذ أعمال الصيانة بدهان اسود كوبرى قصر النيل التي لوحظ فيها استخدام (الرولة) في دهان التماثيل البرونز ما يعد خطأ كبيرا ومخالفا للقواعد العلمية والفنية لأعمال الصيانة ما أفقد التماثيل قيمتها الفنية وطمس (الباتينا) اللونية الأصلية لخامة البرونز لأعمال ذات قيمة فنية وتاريخية كبيرة.
وأكدت النقابة في بيانها، أن صيانة الأعمال ذات القيمة الفنية والتاريخية، لا تتم بالطرق التقليدية، وإنما بطرق أكثر دقة لإزالة الأتربة الملتصقة فقط دون استعمال ورنيشات ومواد ملمعة أفسدت العمل على المستوى البصري والتقني.
وأكدت النقابة أنها تواصلت مع الجهات المعنية والاستجابة السريعة من محافظ القاهرة إبراهيم صابر وكذلك الدكتور جمال مصطفى رئيس قطاع الآثار الإسلامية وتم تحديد موعد مع رئيس الإدارة المركزية للترميم الدقيق وتم التنسيق بين نقابة الفنانين التشكيليين ووزارة السياحة والآثار على تضافر الخبرات للانتهاء من عملية ترميم وصيانة اسود قصر النيل وإعادتها إلى أصل الباتينا اللونية للتماثيل. أزمة اسود قصر النيل، وصلت أروقة البرلمان، وتقدم ايهاب منصور، رئيس الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بطلب إحاطة بشأن أعمال صيانة اسود كوبري قصر النيل.
وقال منصور إنه توجه لموقع الأعمال في كوبري قصر النيل فوجد أعمال صيانة ضمن خطة لصيانة 21 تمثالا بالميادين العامة أعلنت عنها محافظة القاهرة ووزارة السياحة والآثار. وبين أن أعمال الصيانة بدأت بطلاء اسود كوبري قصر النيل التي لوحظ فيها استخدام ما يعد خطأ كبيرا ومخالفا للقواعد العلمية والفنية ما أفقد التماثيل قيمتها وطمس الباتينا اللونية الأصلية لخامة البرونز لأعمال ذات قيمة فنية وتاريخية كبيرة وصيانتها لا تتم بالطرق التقليدية وانما بطرق أكثر دقة لإزالة الأتربة الملتصقة فقط دون استعمال ورنيشات ومواد ملمعة أفسدت العمل على المستوى البصري والتقني.
وتساءل النائب: من المسؤول عن طمس هويتنا التاريخية بهذا الأسلوب غير العلمي؟
ويعود تاريخ تشييد اسود قصر النيل الأربعة في أواخر القرن التاسع عشر في عهد الخديوي إسماعيل، الذي كلف المثال الفرنسي الشهير هنري جاكمار بنحتها.
وكان الهدف وضع التماثيل الأربعة على بوابتي حديقة حيوان الجيزة، لكن حين وصلت إلى القاهرة من فرنسا، كان الخديوي إسماعيل قد خُلع، وتولى ابنه الخديوي توفيق، الحكم، وكانت تجرى في ذلك الوقت عملية تجميل كوبري الخديوي إسماعيل، كما كان يسمى آنذاك، ورأى الخديوي توفيق، أن الكوبري يحتاج لمظهر يليق بهيبة اسم والده، فتم وضع اسدين على كل مدخل.
وكانت محافظة القاهرة أعلنت قبل أيام بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار بدء حملة تنظيف وصيانة 21 تمثالا أثريا بعدد من الميادين العامة في العاصمة. وتشمل هذه التماثيل اسود قصر النيل، ومحمد فريد، ومصطفى كامل، وسعد زغلول.
وينتقد باحثون أثريون ومهتمون بالتراث طريقة تعامل السلطات مع الآثار والتراث المصري، خاصة ما يتعلق بإزالة مقابر تاريخية في منطقة وسط القاهرة لإقامة جسور ومحاور مرورية في إطار خطة تطوير القاهرة.