في العربية صيغة مخصصة لإفادة معنى المبالغة. والمبالغة تعني الاتصاف بصفة شيء على وجه الفاعلية والمبالغة فيها. فإن تقول سارق فذلك وصف له بالسرقة على وجه الفاعلية، لكن أن تقول سرّاق فأنت قد أضفت إلى المعنى السابق شيئا من الكثافة وشدّدت على الكثرة فيها وهي كثرة يسمّيها النحاة مبالغة. وفي العادة تكون المبالغة من اسم الفاعل، كما في بيت الخنساء الشهير في رثاء صخر إذ تستعين لإبراز صفاته بهذه الصيغة فتقول: (حمّال ألوية هبّاط أودية// شهاد أندية للجيش جرّار) فأضمرت الفاعلية في هذه الصيغ وأظهرت المبالغة في الاتصاف بها، وهذا ما يمكن أن يقرأ ذهنيا قراءة متوازية فيها جمع بين (حامل/ حمّال ) و(هابط /هبّاط) و(شاهد/ شهّاد) و(جارّ وجرّار).
في الطرف الأول من كلّ زوج المعنى المحايد للفاعلية وفي الثاني المعنى المسوّر أو المكمّم له، حتى إنّنا لنفهم أن لكلّ فاعل طرفين في الفاعلية، طرفا معتدلا وطرازيّا وطرفا يبالغ في وصفه. ولكلّ كثرة معناها في هذا السياق الرمزي فإن تحمل الألوية فهذا فعل رمزي يعني قيادة الجيش، ولكن أن يبالغ في حملها فهذا يعني أشياء كثيرة مترابطة من نوع كثرة الإغارات وكثرة الإمارات واستمرار القيادات. الكثرة في الفاعلية هي رمز للحضور المميز في الكون والفعل فيه من غير ما شكوى، لكنّ المبالغة في الفاعلية ليست متاحة في جميع الأفعال فعلى سبيل المثال لا تصاغ المبالغة في أفعال الحسّ جميعا، وإن كان متاحا أن يصاغ اسم الفاعل منها؛ فنحن نشتق من فعل الرؤية رأى اسم فاعل فنقول راءٍ لكنّ المبالغة غير متاحة من هذا الفعل فلا يقال(رأياي) أو (رئيّ) أو (رأياية) ولا يصاغ من لامس (لمّاس) ومن شامّ شمّام، ولا يقال من سامع سمّاع ولكن يقال سميع مثلما جاء في الذكر الحكيم في قوله تعالى مثلا: (إن الله هو السميع البصير) (غافر:20).
في القرآن موضع تدرّج فيه هذا الاستعمال من الفعل إلى اسم الفاعل إلى صيغة المبالغة في قوله تعالى في فاتحة سورة المجادلة (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا أن اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير). في الآية ضرب من التدريج في وصف الذات الإلهية من الفعل (قد سمع) والله يسمع إلى صيغة المبالغة (الله سميع بصير).
كثيرة هي الصفات الإلهية التي صيغت على وزن المبالغة، وهي في الأصل مقترنة بالأفعال التي يمكن أن تسند في إطار حيادي وطرازيّ إلى البشر. معلوم أن الأفعال الحسيّة التي تسند إلى الإله هي صفات مفارقة، ولا نريد الخوض في الخلاف قديما بين الصفاتية والحشوية، وغيرهم من المتكلمين الذي نسبوا إلى الله صفات حقيقية أو مفارقة؛ إنّما غرضنا في هذا السياق أن نبيّن الكيفية التي يمكن أن يحدث فيها ضرب من القصر للصفات على متصف بها وتمتنع من الإسناد إلى غيره. فعلى سبيل المثال فإنّ فعل سمع يمكن أن يسند إلى البشري والإلهي، سواء بسواء ونحن في عباداتنا اليومية غالبا ما نكرّر هذه الأفعال (سمع الله لمن حمده) فالإنسان يسمع ويبصر في معنى، ويسمع الله ويبصر في معنى آخر مفارق؛ والعبارة توحّد الفعلين توحيدا يمكن أن يكون مثارا لجدل المتكلمين. فإن يعتقد في أن الله يسمع فهذا جزء من استيعاب أقوال العباد الموجّهة إليه، إذ من الناحية البراغماتية لا يمكن أن يكلم إلاّ من يفترض أنّه يسمع بقطع النظر عن الطريقة التي بها يسمع؛ فكل قول يقتضي لسانا يقول وأذنا تستمع.
السماع الإلهي في الآية المذكورة هو سماع من ضربين سماع لخطاب موجّه إلى الله وسماع لخطاب موجّه إلى الرسول من هذه المرأة (تسمّيها التفاسير: خولة بنت ثعلبة) التي جاءت تشكي للرسول من زوجها. بنى المفسرون والمهتمون بأسباب النزول نصّ المحاورة التي فيها جدل وهذه صياغة القرطبي في تفسيره إذ يقول: (وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك!) امرأة تشكو زوجها كيف ظاهرها: قال لها أنت عليّ كظهر أمّي، أي أنت عليّ حرام وهو ضرب من النفور الذي يشبه الطلاق، غير أنّه ضرب من المباعدة في المعاشرة، ولنقل إنّه نوع من الطلاق في الجاهلية. ما يعنينا في هذه المحاورة أنّها ختمت بدعاء موجّه إلى الله، هي شكوى مضمّنة في شكوى تشكو زوجها إلى الرسول لفظا وتشكو إلى الله دعاء: هي تريد إنصاف الدنيا وإنصاف الآخرة، أو لنقل إنصاف الحاكم البشري والحاكم الإلهي المفارق؛ ولذلك نزلت الآية في هذا النصّ.
في التفاسير ضرب من المقارنة بين سمع الله وسمع البشر، إذ أورد البخاري عن عائشة أنّها قالت: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها). دور المقارنة هنا البحث عن المفارقة بين السمع البشري الممتنع عن قرب، والسمع الإلهي المتحقق من غير شرط. فنطاق السمع الإلهي أوسع من نطاق السمع البشري فالأذن القريبة قد لا تسمع ويسمع الإله كل الأقوال التي تدور على وجه البسيطة، بل إنّه ينزّل من الكلام ما يؤيّد أنّه سمع؛ ومن هنا جاءت صيغة المبالغة وهو السميع البصير في آخر الآية.
التدخل الإلهي في التاريخ بنزول آية بعد حدث بسيط دوره تأكيد صفة الإحاطة بالكون البشري، بأداة تصنف عند البشر في نطاق إدراك ما يحدث. إدراك ما يحدث وهو خصيصة الفعل السماعي البشري، يعني أن تنغمس الأذن بما هي حاسة ناقلة في الكون القريب تتقبل أحداثه، بما هي أقوال قابلة لأن تسمع وتفهمها ويتخذ في شأنها قرار: التعاطف أو الإدانة أو الحكم عليها أو لها.. فمن المنتظر أن يصنف الرسول المرأة الشاكية ويقتصّ لها من ظلم زوجها. تصرّف النبيّ السامع ليست قوّته من قوّة النبوة، بل من قوّة الحاكمية والعدالة التي تجعل من الرسول حاكما عدلا لا رسولا يوحى إليه بحكايتها. درجة سماع الأنبياء للبشر في هذا السياق هي تقريبا درجة سماع البشر العادييّن، وهنا يستوي الرسول في سماع ما يقال مع أيّ بشر عاديّ. هذا هو طراز الفعل السماعيّ بما هو إدراك بالسّماع لمن يحدّث عمّا يحدث. لكنّ الإحاطة بما يحدث تعني درجة أعلى بكثير من ذلك إذ أن السماع تسلط على المحاورة: المجادلة وعلى الدعاء الفردي الذي وجّهته المرأة إلى الإله لكي ينصفها من بعلها الغاشم. استعمل اسمان في وصف النصّ القرآني للحوار بين النبيّ والمرأة وهما الفعل تجادلك.. والاسم تحاوركما.. ولكنّ فعل الدعاء بما هو قول موجّه إلى الله، لم يسمّ ولم يلتفت إليه. الفرق بين المجادلة والمحاورة هو في العلاقة بين المتحاورين: فمن الممكن أن يكون في الجدل ضرب من السؤال والاحتجاج على الرأي أو له.. في هذا السياق يكون السماع متقطعا بين حوار هدفه لا سماع المضمون، بل البحث عن قوة الإدانة بحثا يستوجب من المتكلم أن يكمل البحث عن العلة التي تقوّي موقفا أو تضعف آخر؛ لكنّ المستمع المفارق وهو يتلقى هذه المجادلة يراها نوعا من المحاورة، أي يراها كلاما بين طرفين مقطوعا عن الهدف منه. في السماع البشري انحياز إلى جهة هي جهة من له الحقّ والبتّ الأخلاقي والمتعقّل فيه ففيه ضرب من الحياد المطلوب في كلّ حاكم يريد أن يحكم برويّة؛ لذلك تدخّلت الذاتية الإلهية المفارقة لكي تقنّن الوضعية ومثيلاتها أنّه: لا ظهار بعد اليوم؛ ومن فعل ذلك عوقب بأحكام الظهار التي نزلت في السورة. السميع هو أيضا عليم، لا بمعنى الإحاطة بما كان ويكون بل بالشرع الذي سيقنّن.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية