رغم عدد المشاركين المبهر في قمة الدول العربية والإسلامية في السعودية أمس، أثبتت مرة أخرى بأن القمم العربية والإسلامية الدولية ليست حبل نجاة لنزاعات إقليمية دامية. هذا المؤتمر الذي انعقد في دورته الأولى قبل سنة بمبادرة من السعودية، بات يشبه قمم الهذر للجامعة العربية التي لم تنجح في توفير حلول واقعية للنزاعات في السودان واليمن ولبنان، أو بين إسرائيل والفلسطينيين – وحتى الخطاب المتشدد وإلقاء كامل مسؤولية الحرب في غزة ولبنان على إسرائيل، لا يحقق أي نتيجة.
صحيح أن كانت قمم مهمة في محافل مشابهة مثل قمة بيروت في 2002 وأقرت المبادرة العربية، التي نالت اعترافاً دولياً واندرجت في خطة سياسية لحل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، ولكن منذئذ لم تنجح هذه المحافل التي تضم دولاً تحوز احتياطات النفط والغاز الأكبر في العالم وتشكل الزبائن الأكبر للسلاح في العالم، في إنتاج خطوات سياسية مشابهة تترجم قوتها الاقتصادية والسياسية إلى نتائج سياسية مستدامة.
لكن أهمية القمة العربية – الإسلامية، لا سيما تلك التي انعقدت أمس، تكمن في مكان آخر. قبل ست سنوات، بعد قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، كانت مكانة السعودية في العالم في أسفل الدرك. حاكمها الفعلي، ولي العهد محمد بن سلمان، اعتبرته واشنطن والعواصم الأوروبية الشخصية غير المرغوب فيها.
إن فشله المدوي في إلحاق الهزيمة بالثوار الحوثيين في حرب اليمن المتواصلة منذ تسع سنوات، رغم الفجوة العسكرية الهائلة والسلاح الأمريكي المتطور؛ والهزة التي رافقت جهوده لإحداث تغيير في النظام في لبنان والصراع الداخلي الوحشي الذي أداره ضد خصومه الداخليين، كل هذا جعله زعيماً منفلت العقال وعديم الكفاءات السياسية والعسكرية، وهو ما وضع مملكته على مسار الصدام مع الولايات المتحدة.
لكن الظروف العالمية بالذات، وليس الإقليمية، هي التي رفعت مكانة بن سلمان وجعلت السعودية الدولة الزعيمة في الشرق الأوسط. فالحرب في أوكرانيا أحدثت أزمة طاقة أجبرت الرئيس بايدن على تجميل وجه بن سلمان ومصافحته، والحرب في غزة أعادت الشرق الأوسط إلى قلب الوعي العالمي. هذه الحرب هي التي ولدت الفكرة الأصيلة في عقد مؤتمر القمة العربية – الإسلامية، وأعطت بن سلمان وزناً سياسياً عظيم القوة، كمن يقود ليس فقط دائرة الدول العربية، بل والعالم الإسلامي برمته. غير أن هذه المكانة تستوجب من السعودية أن تكون “زعيمة الجميع”، وبهذه الصفة، عليها السير على الخط وتدوير الزوايا حتى مع دول لا تنسجم مع سياستها الإقليمية المؤيدة لأمريكا.
ولدت هذه الاستراتيجية استئناف العلاقات بينها وبين تركيا، التي كانت تعتبر دولة معادية والتي اعتبرت قبل بضع سنوات فقط “تهديداً أخطر من إيران”؛ ودفعتها أيضاً لترميم منظومة العلاقات مع العراق، الذي كان يعتبر حتى بعد سقوط صدام حسين ليس أقل من “دولة مشبوهة”، ودفعتها أيضاً لتبني علاقات مع سوريا من جديد، وهي التي طردت من الجامعة العربية عقب مذبحة ارتكبها الأسد بحق مواطنيه في الحرب الأهلية، ثم إرجاعها إلى حضن العالم العربي؛ وأخيراً دفعتها أيضاً إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران السنة الماضية. عشية دخول ترامب إلى البيت الأبيض، باتت السعودية جاهزة مع رزمة شركاء استراتيجيين ثقيلة الوزن، أكثر بكثير من تلك التي كانت لها في بداية الولاية الأولى للرئيس الأمريكي.
لا يدور الحديث فقط عن تصريحات احتفالية وتبادل زيارات للزعماء، فقد استثمرت السعودية وتستثمر المليارات في تركيا –التي بدورها تبيعها مسيرات قتالية من إنتاجها– وتقيم مصنعاً لإنتاجها في المملكة. ومن جانب آخر، وقعت مع العراق مذكرة تفاهم لتعاون أمني في الأسبوع الماضي. أما هذا الأسبوع، فقد زار إيران رئيس أركان الجيش السعودي، فياض بن حامد الرويلي، إيران لأول مرة، والتقى قائد الجيش الإيراني محمد باقري، لبحث سبل التعاون العسكري. وهي زيارة تنضم إلى سلسلة مناورات عسكرية مشتركة سبق أن أجرتها الدولتان (إلى جانب دول أخرى في المنطقة).
منذ القمة العربية – الإسلامية السابقة، التي شارك فيها الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، أصبح الإيرانيان، حسين أمير عبد اللهيان وعقبه عباس عراقجي وزيراً للخارجية، ومسؤولون إيرانيون آخرون، جميعاً “أبناء بيت” في السعودية. صحيح أنه يصعب تقدير مدى تأثير السعودية على سياسة إيران، لكن عندما تقوم استراتيجية إيران السياسية على أساس ترميم العلاقات مع دول المنطقة العربية، فلا يمكنها تجاهل المصالح الأمنية لجارتها.
صحيح أنه لا يوجد حلف أخوة، ولا تنزل مذكرة التفاهم العسكري التي وقعتها السعودية مع العراق بسلاسة في حلق طهران؛ لكن إيران سارعت إلى دعوة مستشار الأمن القومي العراقي للبحث في تعاون عسكري بين الدولتين رداً على هذا التوقيع. ولهذه العلاقات نتائج عملية، تجد تعبيرها في شطب السعودية من قائمة أهداف المليشيات الشيعية المؤيدة لإيران العاملة في العراق. وحتى قبل هذا، توقف الحوثيون، بتعليمات من إيران، عن مهاجمة السعودية.
وتحفز إيران لهجوم على إسرائيل خلق هو الآخر ساحة تنسيق بين السعودية وإيران، وذلك على خلفية الخوف من أن مثل هذا الرد قد يدهور المنطقة إلى حرب إقليمية قد تتضرر فيها دول الخليج أيضاً. والعراق هو الآخر انتزع تعهداً من إيران على الورق على الأقل، بألا تستخدم مجاله الجوي لهجوم على إسرائيل. في المحادثات التي جرت في هذا الأسبوع في طهران، طرح رئيس وزراء العراق، محمد السوداني، مطلب كف المليشيات الشيعية أيضاً عن مهاجمة أهداف إسرائيلية وأمريكية كي لا يصبح العراق جبهة ساخنة.
فوق كل هذا، تستند الاعتبارات الإيرانية تجاه السعودية إلى أساس استراتيجي واسع، على خلفية تقارير بشأن تقدم المحادثات عن إمكانية إقامة حلف دفاع بين الولايات المتحدة والسعودية مع حلول نهاية السنة، حتى قبل انتهاء ولاية الرئيس بايدن. حين تعيش السعودية وإيران (إلى جانب كل المنطقة والعالم) في انعدام يقين تام حول سياسة ترامب المرتقبة، سترغب السعودية في تسريع قيام حلف الدفاع. أما إيران من جهتها، فتتطلع لضمان عدم جعل مثل هذا الحلف الهادف لإقامة “سور دفاع” ضد إيران، والسعودية مربضاً لانطلاق الهجمات ضدها.
لهذه الاعتبارات الإيرانية، التي تصبح أكثر إلحاحاً كلما اقترب دخول ترامب إلى البيت الأبيض، له تأثير أيضاً على ساحة لبنان. تعمل في لبنان، دون نجاح كبير، مجموعة الدول الخمس، التي تضم إلى جانب السعودية مصر وقطر والولايات المتحدة وفرنسا، بهدف حل الأزمة السياسية والدفع قدماً بانتخاب رئيس في بيروت. والآن، السعودية وقطر ومصر، كفيلة بلعب دور مهم قد يقنع إيران في توجيه حزب الله لتخفيف حدة مواقفه، فتمنحها بذلك “نقطة استحقاق”، سواء في المنطقة أم حيال ترامب الذي وعد مؤيديه العرب بإحلال السلام في لبنان.
كما أن تطلعات السعودية لتطوير برنامج نووي وتخصيب اليورانيوم في أراضيها، لا تغيب عن عيون إيران. صحيح أن البرنامج محدد لـ “أهداف سلمية”، لكن من يعرف أكثر من إيران بأن تعبير “أهداف سلمية” يحمل تفسيرات متنوعة. بالحذر الواجب، إن التطلع السعودي للنووي له تأثير على نتائج زيارة الأمين العام للجنة الدولية للطاقة الذرية، روفائيل غروسي، إلى طهران غداً. يصل غروسي إلى هناك للبحث في ترميم منظومة رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على المنشآت النووية في إيران، وإعادة المراقبين الذين طردتهم إيران، وفحص إمكانية تخفيض مستوى تخصيب اليورانيوم. لا ضرورة لحبس الأنفاس قبيل الزيارة. لكن نتائجها تؤشر إلى المسار الذي ستتبناه إيران مع حلول الولاية الثانية لترامب.
تسفي برئيل
هآرتس 12/11/2024