الاستبدال بين جينيت وريتشاردسون

كثيرة هي ردود جيرار جينيت على الذين انتقدوا تنظيراته، وعارضوا بعض مفاهيم كتابه «خطاب الحكاية». ولا يخفى ما في هذه الردود من دفاع غير مباشر عن المدرسة الفرنسية، التي باتت تواجه منافسة غير مسبوقة من لدن نقاد المدرسة الأنكلوأمريكية، ومن ذلك مثلا قول جينيت: (تذكر آن بانفيلد ببعض الاستخفاف أولئك المؤلفين بارت وتودوروف الذين أكدوا استحالة حكاية بلا سارد، غير أنني لا أتردد في الانضمام إلى هذه الزمرة الجديرة بالشفقة). وعلى الرغم من أنه عنون أحد مباحث الكتاب أعلاه بضمير المخاطَب، فإن اهتمامه انصب بشكل مباشر على السارد والمسرود في مواضع بعينها، منها أولا استحالة التبئير على الشخصية، في ما إذا أُضفي الصوت على شخصية أخرى، بيد أن (الاستبدال) يجعل هذا التبئير طبيعيا.
وأرجع جينيت سبب استعمال الاستبدال إلى (تمرد بعض الكتّاب على ضمير المخاطب مقابل لا شيء، لأن الضمير هو ما هو عليه ولأن أولئك الكتّاب هم ما هم عليه: لماذا يكتب البعض بالحبر الأسود والبعض الآخر بالحبر الأزرق). وهو ما نلمس مثاله واضحا في رواية «التحول» لميشيل بوتور، وفيها يتحقق التبئير الداخلي من خلال استبدال فعل المضارع بفعل الأمر وبالعكس (هيا أنت أيضا. هذا الكتاب الذي يربك حركتك دسّه في جيبك وغادر هذه المقصورة ليس لأنك جائع حقا.. إنها الآلية التي وضعتها بنفسك والتي بدأت تفعل فعلها في غفلة منك).
ومنها ثانيا، أن الحوار الداخلي بضمير المخاطب أكثر تعقيدا، لأنه يدرج المسرود له في لعبته: فتبدو الشخصية هي المسرود له. وهو أمر لا يتحقق إلا إذا كانت الرواية عبارة عن حوار داخلي من أولها إلى آخرها، كما في رواية «خرائط» لنور الدين فارح، وتبدأ بالسارد وهو يخاطب الشخصية التي ليس لها إلا أن تصغي صامتة، مؤدية دور المسرود له (تجلس متأملا تعابير وجهك، مرهقة شاحبة السحنة تجلس لساعات.. تحدِّق في الظلمة، تسمع شخيرا خفيفا يأتيك من الغرفة المجاورة، تستحضر الماضي الذي ترى فيه جوادا يسقط راكبه).
ومن المواضع أيضا أن إحدى وظائف المسرود له المحتملة هي التلفيق عبر تماهي المسرود له بالبطل، وقد عدَّ جينيت هذه الوظيفة حالة نادرة وبسيطة جدا هي من متغير السرد غيريِّ القصة. وأضاف قائلا: (ومرة أخرى لا نعلم كثيرا عن الجانب الذي يزعم المؤلف أنه منه، ونحن نعلم أو نخمن طبعا أنه في كل مكان) في إشارة إلى عدم إمكانية الإحاطة بكل تحولات ضمير المخاطب، التي معها تتغير لا طبيعية السرد، كقول السارد في رواية «الخرائط»، (حدثتك عن السبب الذي جعل أمك تختبئ في الغرفة التي وجدتك فيها، وسبب موتها بطريقة سرية هامسة في أذنيك أيضا بأشياء عن أبيك الذي توفي قبل بضعة أشهر من ولادتك في ظروف غامضة في سجن ما من أجل مثله العليا)، فكأن الشخصية البطلة واسمها عسكر تتلقى الخطاب بوصفها مسرودا له، وهذه هي اللاطبيعية المتولدة عن التلفيق.
وفي هذا الإطار وجد جينيت أن مصطلح (المؤلف الضمني) لواين بوث غير دقيق، والأسباب ثلاثة، أولا أن لا وجود لأحد يشتغل ما بين المؤلف الحقيقي والسارد، وثانيا أن السارد خارج القصة هو مؤلف مفترض وصورة للمؤلف في النص قد يكون إيجابيا أو سلبيا، تبعا للوضع الذي يراد إسناده إليه، وثالثا أن المؤلف الضمني موجود في مقام مثالي، وليس في المقام الفعلي.
وعلى الرغم مما قدمه جينيت من رؤى حول مفهوم الاستبدال، فإنها لم تقنع النقاد الأنكلوأمريكيين، ومنهم براين ريتشاردسون الذي سعى في كتابه (الأصوات غير الطبيعية) 2006، إلى حل إشكالية هذا المفهوم، بما يجعل السرد بضمير المخاطب مألوفا واعتياديا. وحدد في الفصل المعنون (في البداية تشعر بالضياع قليلاً: أصناف السرد بضمير المخاطب) ثلاثة أنماط رئيسة لهذا السرد هي: المعياري والتلقائي والافتراضي. فأما النمط المعياري، فيعد أكثر الأساليب مألوفية ويتمثل في مخاطبة المسرود له مباشرة، ويكثر في كتابات فيلدينغ، وثاكري، وجورج إليوت. وأحيانا يكثر فيه تكرار مفردة «أنت» باستعمال المونولوج الموجه إلى جمهور متجانس حقيقي أو خيالي كما في رواية «الخرائط» لنور الدين فارح (فكرتَ أن الذي تحتاج إليه كي تواجهها به، براءة تحمي بها نفسك.. عزلتك الأحلام شاركتَ الآخرين في كل شيء إلا أحلامك، كنت مصرا تعرف كل أسرارك).
أما النمط التلقائي فهو الأقرب إلى أشكال السرد التقليدية، حيث يخاطب السارد بشكل مباشر القارئ الفعلي أو المسرود له. وهذا ما عرفته المرويات التراثية العربية. ومن الروايات التي وظفت هذا النمط «لو أن مسافرا في ليلة شتاء» لأيتالو كاليفينو، وفيها يخاطب القارئ مباشرة (انتباهك الآن كقارئ يتركز تماما على المرأة تدور حولها بالفعل لعدة صفحات.. ها أنت قرأت الآن نحو 30 صفحة، وأصبحت ممسوكا في شرك الحكاية.. وأنت من نوع القارئ الحساس لتلك الظلال الدقيقة، سريع بالإمساك بنوايا المؤلف ولا شيء يفلت منك).
أما النمط الافتراضي فيتحقق حين يتبع السارد أسلوبا هو عبارة عن دليل guidebook لسرد الرواية، مصححا ما سماه جيمس فيلان الانزلاق الانطولوجي من ناحية أن يكون ضمير (أنت) دالا على المسرود له والمتلقي القارئ وبينهما المؤلف. ويتمثل هذا النمط في رواية (التحول) لميشيل بوتور وفيه تُروى القصة بصيغة المضارع عن بطل الرواية الوحيد الذي يشار إليه بضمير المخاطب. وقد يكون السارد والمسرود له في وضع يخرق حدود النص الداخلية والخارجية فلا يمكن التمييز بين السرد المتجانس والمغاير، فلا تتضح هوية كل من السارد والشخصية. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة التفاعل بين القارئ والبطل؛ أما باتجاه سلبي حين يعارض التماهي مع ضمير المخاطب أو يكون باتجاه إيجابي حين يتعاطف بشكل كامل مع الشخصية المركزية. ويتعلق النمطان التلقائي والافتراضي بالكشف عن المصدر (الواقعي) للمعرفة غير الاعتيادية وغير المقنعة التي يتمتع بها السارد بضمير المخاطب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية