رغم ضبابية الدلالة وهزال المعنى وغموض الأساس القانوني، تواصل الحكومة الهولندية مناقشة تعبير «ستراتيجية العداء للسامية» تمهيداً لطرحه في البرلمان كي يكتسب الصفة التشريعية القاطعة، فيسمح للسلطات الحكومية باتخاذ سلسلة إجراءات قصوى، بينها سحب الجنسية، من مكتسبيها حاملي جنسيات أخرى. رئيس الحكومة ديك شوف، الذي يمثّل الحزب اليميني المتطرف الأقوى في البلاد بموجب الانتخابات التشريعية الأخيرة، يبشّر بميزانية تخدم «الستراتيجية»، تبلغ 4.5 مليون يورو؛ سوف تُصرف، أيضاً، على حماية وتدعيم المؤسسات اليهودية في البلاد.
أحزاب المعارضة تتهم شوف، ومن ورائه المحرّض الأكثر خيرت فلدرز صاحب القرار الفعلي للائتلاف الحاكم، بصبّ الزيت على النار؛ على خلفية المواجهات التي شهدتها أمستردام مؤخراً، بين مشجعي فريق أياكس الهولندي وماكابي تل أبيب الإسرائيلي. وكادت الحكومة أن تسقط، أو تتحوّل إلى صفّ الأقلية الحاكمة، حين استقالت وزيرة الدولة من أصل مغربي نورا أشهبار، احتجاجاً على تصريحات عنصرية ضدّ مغاربة هولندا.
لافت إلى هذا، أنّ مدوّني ذاكرة الهولوكوست، في صفوف المؤرخين اليهود أنفسهم، حفظوا لمدينة أمستردام صفة «الملاذ»؛ ليس حيال اضطهاد اليهود الهولنديين خلال العهود النازية وحدها، بل قبل قرون بسبب محاكم التفتيش الإسبانية حين استوعبت المدينة آلاف اليهود الإيبيريين. وكيف لهم أن يغفلوا عن حقيقة احتماء آن فرانك، طفلة الهولوكوست الأشهر، في هذه المدينة تحديداً قبيل تمكّن الاحتلال الألماني من إلقاء القبض عليها.
لافت أيضاً، ولكنه أقرب إلى التناقض الطريف هذه المرّة، أنّ فريق إياكس أمستردام قد يكون أكثر فرق أوروبا تماهياً مع اليهود، في صفوف أنصاره ومشجعيه أو على صعيد نجمة داود التي يُحتفى بها على الأذرع واللافتات خلال المباريات. وكان رئيس شرطة أمستردام، وليس أيّ ناطق باسم مشجعي الفريق من العرب المغاربة، قد أعلن بوضوح تامّ أنّ مشجعي الفريق الإسرائيلي استبقوا الأحداث بإحراق العلم الفلسطيني، ومهاجمة السيارات، وإطلاق شعارات معادية للعرب؛ هذا عدا عن حقيقة مرئية مسجّلة، أظهرت امتناع هؤلاء عن المشاركة في دقيقة صمت حداداً على ضحايا فيضانات فالنسيا الإسبانية، وعمدوا في المقابل إلى التهريج وإشعال الأسهم النارية.
لم تسقط الحكومة هذه المرّة، أي أنّ هولندا لم تكرّر تجربة أولى سابقة حين بادرت حكومة يان بيتر بلكنانده إلى إسقاط ذاتها والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، بعد انهيار ائتلافها الليبرالي جراء انسحاب الحزب الأصغر في التحالف، احتجاجاً على سعي وزيرة الهجرة ريتا فردونك إلى سحب جواز السفر الهولندي من النائبة الصومالية الأصل أعيان حرسي علي. ورغم أنّ فردونك كانت تطبّق القانون بحذافيره على نائبة يحدث أنها تمثّل الحزب الليبرالي ذاته الذي تنتمي إليه الوزيرة، خصوصاً بعد أن أقرّت حرسي علي علانية بأنها خالفت القوانين المرعية وقدّمت معلومات كاذبة في استمارة طلب اللجوء، إلا أنّ البرلمان صوّت على قرار يطالب فردونك بإيقاف إجراءات سحب الجواز، الأمر الذي امتثلت له الوزيرة، فانهارت الحكومة.
وفي 2004، سنة اغتيال المخرج السينمائي الهولندي ثيو فان غوخ، تحوّل قاتله المسلم إلى اختزال تامّ ومطلق لكلّ المسلمين؛ تماماً كما حدث ذات يوم مع اليهود، حسب الكاتب دافيد آرونوفيتش، اليهودي للتذكير المفيد. هؤلاء انقلبوا في الوعي الشعبي الغربي إلى مجموعة دينية منغلقة متعصّبة، تسخّر مواهب وأموال ونفوذ أبنائها للسيطرة على العالم؛ وعلى شاكلتهم، انقلب الآخرون المسلمون إلى مجموعة دينية متخلفة متعصّبة، تسيء معاملة المرأة وتضطهد المنشقّين. واختتم آرونوفيتش بما يشبه النبوءة الرهيبة: «هذا تنميط شبيه بذاك الذي يخصّ اليهود، وإذا تابعنا تكرار سرده هكذا فإننا سوف نصل إلى مكان مماثل».
وهولندا فيه اليوم، أو تحثّ الخطى إليه، وليست مفردة «ستراتيجية» هنا سوى ذرّ للرماد في الأعين، يخفي طرازاً عنصرياً فاضحاً من الانتصار للسامية.