إن القضية الأكثر إلحاحا في نشأة الرواية العربية، تتبلور في السؤال الآتي: هل نشأت الرواية العربية استجابة لحاجات اجتماعية وثقافية وذائقية؟
إنه سؤال يفتح المجال لمناقشة الأبعاد الاجتماعية للرواية، ونعني بها، هل كانت هناك قاعدة اجتماعية ومجتمعية عربية ساهمت في تلقي الرواية، منذ نشوئها وإلى يومنا، أم أن الأمر تم من خلال تقليد الرواية الأوروبية، التي تُرجمت واقتبست وانتشرت في العالم العربي؟
لا بد أن نقر بمسلّمة في دائرة التلقي؛ وهي أن أي مجتمع في حاجة إلى سرديات، مثلما أنه ينتج هذه السرديات، بل إنه لا يوجد مجتمع دون أشكال سردية، فهو سمة لازمة للمجتمعات الإنسانية، كيفما كانت درجاتها الحضارية. وليس من المعقول القبول المطلق بأن الرواية العربية انتشرت بفعل التأثير الغربي وحده، فهذا يتجاهل كون الأمة العربية أمة متذوقة للأدب في الأساس، شعرا ونثرا، سردا شفاهياً أو كتابيا، وبالنظر إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سنجد أن السرديات الشعبية كانت سائدة وتروى في المقاهي والبيوت والساحات، إلى جانب قراءة الكتب السردية التراثية الشهيرة، مثل ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وغيرهما. فالذائقة للسرد توافرت، أما قبول الرواية، فإننا وكما أشرنا من قبل، مر بمراحل عديدة، ربما تكون مختلطة في زمنيتها، ولكنها أفضت إلى وجود قاعدة قرائية واسعة للرواية والسرديات. إذن، تكون إجابة السؤال المتقدم، أن الرواية العربية وجدت تربة خصبة قرائية وذائقية في المحيط الثقافي العربي وبفترة مبكرة. أما السؤال عن المركزية الروائية الأوروبية، فلا يعدو أن يكون سؤالا عن حجم التأثير والتأثر، ولا ضير في ذلك، لأن من سمات الثقافة العربية المرونة والتعاطي الإيجابي مع الفكر العالمي، وهذا لا يعني الاستلاب، وإنما هو إفادة ونماء، ثم إبداع وخصوصية.
ومن هنا يتحول المفهوم إلى سؤال، كما يطرح شكري عياد في كتابه «المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين» بقوله: «هل استطعنا أن نجعل هذه الأنواع والمذاهب (الأدبية) التي اقتبسناها من الغرب معبرة عن وجودنا الحقيقي لا وجوهنا المستعارة؟ ولكن هذه المشكلة لا تقتصر على الأدب، أنواعه ومذاهبه. لقد اقتبسنا من الحضارة الغربية أشياء كثيرة أخرى، فهل حافظنا على حقيقتنا في هذا الاقتباس أو أضعناها؟ وقد يقال حينئذ إن الأدب يتقدم على غيره في الأهمية، إن لم يكن في الزمن، لأن الأدب هو التعبير الألصق بحقيقتنا ووجودنا».
تساؤلات شكري عياد، تتسق مع التأسيس النظري لنشأة الرواية العربية، بأنها واكبت نهضة الإبداع الأدبي عامة في العصر الحديث، وهو لا ينفي الاقتباس والتأثر، فهذا طبيعي، وإنما يربط السؤال برؤية وجودية حضارية ثقافية، فليست العبرة باقتباس الأشكال الأدبية، وإنما في مدى تعبير هذه الأشكال عن حقيقتنا ووجودنا، وتلك هي القضية الأساسية، وتربطها مباشرة بالإنسان العربي وقضاياه وهمومه. ومن هنا نثير سؤالا: هل استطاعت الرواية العربية أن تعبر عن حقيقتنا؟ والإجابة بالإيجاب، لأن المتتبع لمسيرة الرواية العربية، نجدها التصقت التصاقا حميما بالإنسان العربي، ومهما تأثر الروائيون العرب بمذاهب وتيارات أدبية وافدة، شرقية أو غربية، فإنهم وضعوا الإنسان العربي نصب أعينهم، ونحسب أن تناول قضايا الإنسان في هذا الكتاب يكون أبلغ برهانا على هذه الحقيقة، وأن وجود الإنسان العربي تحقق روائيا، واستطاع المبدع العربي أن يكون هو الألصق تعبيرا بالفرد والمجتمع.
على جانب آخر، هناك رؤية تربط الرواية العربية بتطور المجتمع العربي، ورغبته في النهضة والتحرر، والسير وراء دعوات التقدمية، ورغبة المبدعين والشعوب في اللحاق بالحضارة المعاصرة، ويعبر عن ذلك جابر عصفور في كتابه «زمن الرواية» إذ يقرر أن الرواية كانت «مرآة المجتمع المدني الصاعد، وسلاحه الإبداعي في مواجهة نقائضه التي لا تزال إلى اليوم، متواصلة مع تراثها السردي العربي، محاورة غيرها من روايات الدنيا العريضة التي قاسمتها الهموم نفسها. ولم تعرف الرواية العربية منذ مخاضها العسير المهادنة في تحرير نوعها من هيمنة النوع الأدبي الواحد، أو الاتجاه الأدبي الواحد، أو التقنيات الثابتة، ولم تتوقف عن تجديد نفسها أو تحرير مبدعيها».
هذه الرؤية لا خلاف عليها، في ضوء وجود مئات النصوص الروائية التي تؤيدها، فالرواية كانت خير تعبير عن المسيرة النهضوية العربية الحديثة، بكل تحولاتها وتبدلاتها ومعاناتها وانكساراتها. وعندما نقرأ هذه الرؤية في دائرة القضايا الإنسانية العربية؛ نجدها وثيقة الصلة، وإن كانت الرواية اتسعت موضوعاتها وطروحاتها لتشمل الكثير من الحالة الإنسانية العربية، على امتداد جغرافية العالم العربي، فكانت هناك روايات تكرس المنظومة الاجتماعية الراسخة، ولا تنزع إلى التغيير، مثل الروايات التي اتخذت من القصور ميدانا لها، وعبرت عن رغبات النساء في الحرملك، وطموحات الباشوات في السيطرة والتملك، والصراعات السياسية. وهناك من الروائيين من أمعنوا في مغازلة غرائز القراء، بذريعة التحرر، وكسر المحرمات، وقد انحصر المفهوم في الجسد. ومنهم من كتب رواياته وعينه على السينما، فجاءت سطحية، تنافق شرائح بعينها من مشاهدي السينما، مثل المراهقين. ونحسب أن منظور جابر عصفور يتعامل مع ما ينبغي أن تكون عليها الرواية من دور تنويري وفكري، وهذا قام به عدد من الروائيين العرب، سعوا إلى صياغة أحلام الإنسان العربي في فترات زمنية متعاقبة، معبرين عن شوقهم للحرية والتقدم.
إن الرواية أضحت جزءا لا يتجزأ من الأدب العربي الحديث خاصة، وفي المشهد الإبداعي والثقافي العربي عامة، وباتت هي الكتاب السردي الأول، الذي يعبر عن الإنسان العربي، ذاته وجماعته، العشائر والقبائل والعائلات، التغيرات الديموغرافية التي أصابت الوطن العربي، وظهرت في تبدلات اجتماعية عميقة، ومختلف التيارات الفكرية والسياسية، وقد عبّرت الرواية العربية في مسيرتها عن هذه الأوضاع، فصاغ الروائيون في إبداعاتهم الآلامَ والطموحات، ووصفوا الأوضاع، وحذروا من التداعيات.
وقد ظهرت خصوصية الرواية العربية في إنتاجها الإبداعي المتراكم عبر أجيال وحقب زمنية، وامتدادات جغرافية من الخليج إلى المحيط، وقد استطاعت التعبير عن التاريخ والحاضر والتحولات، والأهم هوية الأمة وثقافتها، واستطاع المنجز الروائي العربي أن يعبر عن خصوصية كل قطر عربي، ضمن فضاء الهوية العربية.
لذا نقول، أهلا بكل إبداع عربي، أيا كانت الجهة، أو المنطقة، أو البيئة التي أنتجته، فكل إبداع يضيء جانبا من حياة الإنسان العربي، ولو كان في حارة شعبية، أو في الصحراء، أو قرية ريفية، أو جزيرة بحرية، فوظيفة الرواية أنها كاشفة عن الإنسان، تتوغل في ذاته الفردية، وتصف علاقاته الاجتماعية وعاداته وتقاليده، وأيضا همومه وقضاياه.
كاتب مصري