في الأيام القليلة الماضية، عبرت إيران بشكل رسمي عن رغبتها في طي صفحة الخلاف مع المغرب، وتطبيع العلاقات معها، وجاء تصريح الخارجية الإيرانية كجزء من مراجعة سياستها الخارجية تجاه العالم العربي، فبدأت من دول الخليج، ثم مدت عينها إلى منطقة شمال إفريقيا، وذلك تنزيلا للرؤية التي عبر عنها الرئيس الإصلاحي مسعود بزكشيان غداة تصدره لنتائج للانتخابات الرئاسية بإيران.
سجل العلاقات الإيرانية المغربية، كان محكوما بقدر كبير من عدم الاستقرار، فمن العلاقات المتميزة التي نسجها شاه إيران مع الرباط، إلى حالة التوتر الشديد الذي دخلت فيها العلاقات مع الثورة الإيرانية، ليتصدر فتوى رسمية من علماء المغرب بتكفير الإمام الخميني.
وقف الحرب الإيرانية العراقية ووفاة الإمام الخميني، دفعا نحو حلحلة الموقف، وعودة العلاقات بين البلدين، في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة، ليتم قطعها بشكل رسمي من جهة الرباط في 2009، ثم عادت العلاقات لطبيعتها سنة 2016، ليتم قطعها من جهة الرباط مرة أخرى سنة 2018.
في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، باستثناء مرحلة الشاه، كان السقف منخفضا، ولم يصل التعاون التجاري إلى أرقام تذكر، فضلا عن أن يرتاد أفق الحوار السياسي، لكن نقاط التوتر التي أدت للقطيعة ثلاث مرات، كلها من جانب الرباط تعددت، فمن الخلاف على تصدير الثورة الإيرانية إلى الدول العربية 1979، إلى نشر التشيع سنة 2009، لتصل القطيعة ذروتها باتهام الرباط لإيران بدعم جبهة البوليساريو، وتدريب حزب الله اللبناني لميليشياتها في الجزائر سنة 2018.
في الواقع، قرار تطبيع العلاقات مع الرباط من جانب إيران، ثم استجابة الرباط لرغبة إيران في طي الخلاف معها، يخضع لحسابات متعددة أولها حسابات الربح والخسارة، والتوافقات على مستوى الرؤية والسياسة الإقليمية.
حسابات إيران ليس فيها كثير من الخسارة، فالتطبيع مع الرباط، ليس فيه إلا خسارة واحدة، هي رد الفعل الجزائري، وحتى هذه الخسارة، قد ترتد بالنسبة إلى الجزائر في هذه الظروف إلى ربح، أو على الأقل رفع عبء عيلها، فجزء من مبررات الضغوط الأمريكية والأوروبية عليها مرجعه، علاقاتها المحورية مع موسكو وطهران، ولذلك، ربما يكون مفيدا للجزائر في هذه اللحظة الحساسة المتسمة بصعود اليمين المتطرف إلى أوروبا، ودخول دونالد ترامب مرة ثانية إلى البيت الأبيض، أن تجد المبرر الموضوعي لبناء صورة أخرى تسوق إلى الغرب حول علاقة الجزائر بإيران.
ما دون هذه الخسارة، التي قد تتحول إلى ربح جزائري، فعودة العلاقات مع الرباط، سيكون مكسبا كبيرا لإيران، التي تعيش هذه الشهور ضغطا متزايدا عليها بسبب ملفها النووي، ثم علاقتها بمحاور المقاومة، ولذلك، بعد تطبيعها مع السعودية، ونسجها لعلاقات مميزة مع دول الخليج، وبعد حصول تفاهمات مهمة مع القاهرة، هي اليوم تتجه لتوسيع دائرة الدول العربية التي قد تعينها في تخفيف الضغط عليها، ونزع فتيل التوتر بينها وبين واشنطن، وتأمل في توجهها لمنطقة المغرب العربي، أن تقوم الرباط بدور في هذا الاتجاه، بحكم علاقاتها القوية مع واشنطن.
الرباط غير متحمسة بشكل كبير لعودة العلاقات مع طهران، ليس لأنها لا تريد أن تكسب فاعلا جديدا داعما لقضيتها الوطنية، ولكن، لأن سياسة طهران الإقليمية، وكلفة هذا الاختيار (الاستجابة لرغبة إيران في تطبيع العلاقات) على سياسة المغرب الخارجية والإقليمية، ستكون ربما في حساب الرباط أكثر من مكاسبها
من جهة الرباط، حسابات الربح والخسارة جد معقدة، فسجل العلاقات بينها وبين طهران، يرفع أمامها ثلاثة محاذير كبيرة، أولها سياستها الإقليمية في منطقة الخليج والشرق الأوسط، فالرباط تقدم توصيفا لهذه السياسة باعتبارها سياسة تروم خلخلة الاستقرار بهذه المنطقة، وخلق حالة اللادولة، التي تمكن طهران من إنشاء تشكيلاتها الموالية، التي تصير مع الوقت بفضل تسليحها، كيانات فوق الدولة، بينما سياسة الرباط، على النقيض من ذلك، تتجه نحو دعم الاستقرار في المنطقة، وتشجيع عملية تسوية سلمية في الشرق الأوسط، وتقوية جهاز الدولة ومؤسساتها في المنطقة ودعم سيادتها، لتكون هي المخاطب الأساسي في تدبير الأزمات.
المحذور الثاني، هو البعد المذهبي في سياسة إيران، أي رهانها على تشييع المنطقة العربية، وخلق ولاءات مذهبية، تتحول بعد ذلك لولاءات سياسية لطهران.
في سنة 2009، قدمت الرباط واقعة المدرسة العراقية دليلا على موقفها، وكيف تم طرد تلميذتين من هذه المؤسسة، بسبب رفضها الاستجابة لمناهج تربوية توجه الناشئة إلى معتقدات شيعية، ووجهت الاتهام لطهران وسفيرها بالرباط، بوقوفه وراء أجندة لنشر التشيع واستعمال الإغراءات المالية لتحقيق هذا الغرض. ورغم أن طهران نفت ذلك، إلا أن واقع لبنان، واليمن، والعراق وسوريا، يثبت أن البعد المذهبي، جزء لا يتجزأ من سياستها في المنطقة، وأن الرهانات السياسية لا تتحقق على الوجه الأكمل دون أجندة تشييع مدروسة، ومما يزيد من حدة هذا المحذور أن الهشاشة الاقتصادية والسياسية التي ضربت تونس بعد 2013 وبخاصة في عهد قيس السعيد، ساعدت طهران في التمدد بنفودها فيها، وتوسيع دائرة التشيع في صفوف النخب والشباب بشكل خاص. ومع القوة والفاعلية والرؤية الاستباقية التي تتميز بها الأجهزة الأمنية المغربية، إلا أن هذا المحذور يخلق تحديا كبيرا للرباط، التي تجعل من الوحدة المذهبية (الاختيارات السنية الثلاثة: الأشعرية في العقيدة، والمالكية في الفقه، والتصوف في السلوك) ركيزة أساسية من هوية الدولة المغربية.
المحذور الثالث، يتعلق بموقف طهران من قضية النزاع حول الصحراء، ودعمها لجبهة البوليساريو سواء بشكل مباشر أو عبر حزب الله. هذا المحذور، بدون شك يمكن أن يزول في حالة تطبيع بين البلدين، بما قد يشكل مكسبا للرباط، ويضعف جبهة البوليساريو.
ومع ذلك، فالرباط غير متحمسة بشكل كبير لعودة العلاقات مع طهران، ليس لأنها لا تريد أن تكسب فاعلا جديدا داعما لقضيتها الوطنية، ولكن، لأن سياسة طهران الإقليمية، وكلفة هذا الاختيار (الاستجابة لرغبة إيران في تطبيع العلاقات) على سياسة المغرب الخارجية والإقليمية، ستكون ربما في حساب الرباط أكثر من مكاسبها.
التقدير أنه ربما من الأنفع للرباط، أن تلعب على نقطتين أساسيتين في هذه القضية، أولها الضعف الذي تشعر به طهران إزاء الوضع المتفجر إقليميا، وشدة الضغوط الدولية عليها. ثم ثانيا، أن مزيدا من الوقت للنظر والاستماع والتشاور، وانتظار الأفعال بدل الأقوال، وذلك من خلال تغيير كلي في سياسة إيران نحو المنطقة المغاربية، ذلك يمكن أن تكسب منه الرباط، وتتجه خطوة إلى الأمام في اتجاه عملية تدبير الخيارات.
ولذلك، الوقت اليوم في صالح الرباط، ومحك التقدم في هذا الاتجاه أو ذاك، يعتمد بالدرجة الأولى على مواقف عملية تقدم عليها طهران كمؤشرات للثقة، فالرباط، كما بينت سياستها مع برلين ومدريد وباريس، تطلب تقديم الثمن، قبل الدخول في الاستجابة لرغبات التطبيع وطي صفحة الخلافات.
كاتب وباحث مغربي