العراق: مأزق السوادني!

خضع ترشيح رئيس مجلس الوزراء في العراق، منذ أول انتخابات تمثيلية جرت بعد الاحتلال سنة 2005، لعملية اختيار معقدة داخل التحالفات الشيعية المتعاقبة، لكن جرى العرف أن يصل إلى هذا الموقع من يحظى بدعم غالبية هذه القوى داخل هذه التحالفات حتى وإن كان بعضها ضد ترشيحه في البداية، أو كان على خلاف معلن معه.
ففي عام 2005، مثلا، تمكن إبراهيم الجعفري من الحصول على ترشيح «الائتلاف العراقي الموحد» بعد انتخابات داخلية فاز فيها، بصعوبة، بفارق صوت واحد، ومع أن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق صوت ضد هذا الترشيح، لكنه دعم الجعفري حتى نهاية عمر حكومتة الانتقالية.
وفي أول حكومة تشكلت في العام 2006 بعد تشريع الدستور العراقي الدائم، وبعيدا عن الإشكاليات التي عرقلت عملية تنصيب رئيس مجلس الوزراء على مدى أشهر، بسبب الاعتراضات الأمريكية والسنية والكردية على مرشح التحالف الشيعي إبراهيم الجعفري، انتهى الأمر باستبداله بمرشح تسوية هو السيد نوري المالكي الذي ظل يحظى بدعم هذا التحالف إلى نهاية دورته رغم دخوله في أكثر من مواجهة مسلحة مع أحد أبرز مكونات هذا التحالف، وهو التيار الصدري!
ولم يمنع الانقسام الشيعي الشيعي الحاد الذي جعل القوى الشيعية الرئيسية تدخل الانتخابات لأول مرة في قائمتين منفصلتين عام 2010 (ائتلاف دولة القانون الذي ضم حزب الدعوة والمستقلين بشكل أساسي، والائتلاف الوطني الموحد الذي ضم التيار الصدري والمجلس الأعلى الإسلامي) من التحالف بعد الانتخابات لضمان الحصول على موقع رئيس مجلس الوزراء، بعد قرار المحكمة الاتحادية المسيس والمتعلق بتفسير «الكتلة الأكثر عددا» الواردة في الدستور، وذلك من أجل قطع الطريق أمام القائمة العراقية للوصول إلى هذا الموقع. لكن هذا التحالف لم يمنع الخلاف على المرشح لهذا المنصب، ما أدى إلى تأخير تشكيل الحكومة لما يقرب من ستة أشهر، ثم حُسم الأمر بترشيح المالكي لولاية ثانية، حظي فيها بدعم كبير من هذا التحالف، حتى بعد انسحاب التيار الصدري منه عمليا.
بعد انتخابات عام 2014 تغيرت الآلية التي يأتي من خلالها مرشح رئيس مجلس الوزراء، فلم يعد الأمر يخضع لعلاقات القوى بين الفاعلين السياسيين الشيعة أنفسهم، فقد استجدت متغيرات على هذا الترشيح. ولأجل ذلك اتفقت القوى الشيعية المناوئة للمالكي (زعيم تحالف دولة القانون) الفائز بتلك الانتخابات، وتمكنت، بعد حصولها على دعم غير مباشر من المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، من ترشيح حيدر العبادي الذي لم يكن يحظى بدعم الأغلبية الشيعية، ولا يحظى هو شخصيا بدعم كتلة صلدة حقيقية داخل مجلس النواب. وقد كانت هذه التجربة بداية لإضعاف موقع رئيس مجلس الوزراء لصالح القوى الشيعية المتنفذة داخل مجلس النواب.

الأمر الخطير الذي يواجه السوداني اليوم، يتمثل في قرار المليشيات الشيعية التي تحظى بغطاء سياسي من الإطار التنسيقي نفسه، بجر العراق إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل من خلال مسيِراتها

وتكرس ذلك بعد انتخابات عام 2018، واستقالة الحكومة عام 2019، ثم الانتخابات المبكرة التي جرت عام 2021. فخلال هذه المراحل تغيرت معايير اختيار رئيس مجلس النواب تماما، وأفضى هذا التغيير إلى ترشيح شخصيات لا تملك أي ثقل حقيقي داخل مجلس النواب (عادل عبد المهدي، ومصطفى الكاظمي، ومحمد شياع السوداني) وبالتالي كانت خاضعة تماما لاشتراطات ليس للفاعلين السياسيين الشيعة المهيمنين على القرار داخل مجلس النواب وحسب، بل أيضا لقادة الميليشيات المسلحة الذين أنتجوا دولة موازية داخل الدولة، بعد عام 2014!
لكن هذا التحول في معايير ترشيح رئيس مجلس النواب انتهى بفشل تجرية السيد عادل عبد المهدي، والسيد مصطفى الكاظمي الذي شيطنته القوى الشيعية الفاعلة، مع أن كليهما لم يتعديا دور السكرتارية المنفذة لإرادة الفاعلين السياسيين وإرادة المسلحين أيضا، ولا تبدو تجربة السيد محمد شياع السوداني بعيدة عن هذا الدور وعن هذا المصير.
في ثلاثة انتخابات متتالية (2010 و 2014 و 2018) كان السيد محمد شياع السوداني (المنتمي لحزب الدعوة تنظيم العراق) ضمن تحالف دولة القانون بزعامة المالكي، ثم انشق عنهما معا نهاية العام 2019 ليشكل بعد ذلك حزبا جديدا باسم «تيار الفراتين» في بداية عام 2021، ولكنه لم يحصل في هذه الانتخابات سوى على مقعد وحيد له شخصيا، وحصل على مقعدين آخرين بعد انسحاب التيار الصدري، ثم تمكن من الحصول على ترشيح تحالف الإطار لرئاسة مجلس الوزراء بعد استقالة أعضاء التيار الصدري من مجلس النواب، بوصفه مرشح تسوية كما سابقيه.
والحقيقة أن القوى السياسية الشيعية المنضوية تحت «الإطار التنسيقي» ومسلحيها، لن تسمح أيضا للسيد السوداني باستخدام السلطة، التي منحوه إياها، من أجل تشكيل تحالف سياسي قد يقضم من مقاعدهم هم بالدرجة الأساس لأنه لن يستطيع بأي حال من الأحوال أن ينافس التيار الصدري على جمهوره العقائدي، وأن تتكرر تجربة السيد حيدر العبادي الذي شكل عام 2018 تحالف النصر واستطاع الحصول على 42 مقعدا، خاصة فالجميع يعلم أن الكثير من القوى السياسية والنواب سيعمدون إلى الانشقاق عن «دكاكينهم» السياسية والالتحاق بالسيد السوداني حتى يتمكنوا من استخدام موارد السلطة لرشوة جمهورهم الزبائني في الانتخابات المقررة نهاية عام 2025. لكن بسبب صعوبة الذهاب إلى خيار إسقاط السوداني بالآليات الدستورية، سواء من خلال استجوابه وسحب الثقة عنه في مجلس النواب، أو من خلال جره إلى المحكمة في قضية التنصت على قيادات الإطار التنسيقي مثلا (ليس هناك حتى الآن قانون يسمح بمحاكمة رئيس مجلس الوزراء كما اشترط الدستور) تسعى هذه القوى إلى تطويق السيد السوداني، عبر آليات متعددة، من بينها تعديل قانون الانتخابات نفسه.
والأمر الخطير الذي يواجه السوداني اليوم، يتمثل في قرار المليشيات الشيعية التي تحظى بغطاء سياسي من الإطار التنسيقي نفسه، بجر العراق إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل من خلال مسيِراتها، مع أن الجميع يعلم بأن تأثير تلك المسيِرات محدود للغاية. ويبدو واضحا أن السيد السوداني عاجز تماما عن إيقاف هذه المسيرات بشكل عملي، بعد فشله في إقناع ايران، صاحبة القرار الأول والأخير في هذا الموضوع، بإصدار أوامرها إلى تلك الميليشيات بايقاف ذلك. ومن ثم فإن أي ضوء أخضر أمريكي يسمح لإسرائيل بالقيام بهجمات انتقامية في العراق، سيقوِض حلمه بالوصول إلى ولاية ثانية، خاصة وأن التسريبات تتحدث عن ضربة إسرائيلية قاسية تشمل البنية التحتية، وليس مجرد استهداف لقادة تلك الميليشيات.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية