الأمر المفاجئ وبحق هو السرعة التي أصبح فيها كل شيء طبيعياً ومنطقياً. بعد بضع ساعات، تجد نفسك تحاول رغم إرادتك، التأثر بأبعاد الدمار وتقول لنفسك أقوالاً مثل “ما هذا الجنون”. ولكن الحقيقة أننا نتعود بسرعة كبيرة على ذلك. أصبح هذا أمراً تافهاً. موجة أخرى من الحجارة. هاكم، هذا كما يبدو مبنى لمؤسسة رسمية، كانت هذه مباني سكنية، وهذه المنطقة كانت حياً. في كل اتجاه تنظر إليه، أكوام من الجديد والرمال والباطون والطوب. زجاجات مياه معدنية فارغة لـ “عيدن” و”فودرا”، حتى الأفق وحتى البحر. العين تنظر إلى مبنى معين ما زال قائماً. “لماذا هذا المبنى بالذات لم يتم هدمه؟”، تساءلت شقيقتي في “واتساب” بعد أن أرسلت إليها الصورة. وأضافت: “لماذا دخلت إلى هناك، بربك”.
لماذا أنا هنا، هذا أمر أقل أهمية. أنا لست القصة هنا. وليس هذا لائحة اتهام ضد الجيش الإسرائيلي. لهذا مكان في أماكن أخرى؛ في مقالات هيئات التحرير، في المحكمة الدولية في لاهاي، في الجامعات الأمريكية وفي مجلس الأمن. المهم أن نجعل الجمهور الإسرائيلي يشاهد. إظهار ذلك. حتى لا يقولوا لاحقاً بأنهم لم يعرفوا. أردت أن أعرف ما الذي يحدث هناك. هذا ما قلته لأصدقائي الكثيرين، الذين سألوني “لماذا دخلت إلى غزة”.
لا يوجد ما يمكن قوله عن الدمار؛ هو في كل مكان، يقفز أمام العين عندما نقترب من مسافة قريبة مما كان أحياء سكنية. حديقة تم الاعتناء بها بشكل جيد وحولها سور مهدم وبيت مدمر، طاولة، أرجوحة، كوخ صغير له سقف من الصفيح وراء الزقاق، نقاط قاتمة في الرمال، قرب بعضها، كما يبدو كان هنا حقل، ربما حقل زيتون. هذا هو موسم قطف الزيتون. هنا نلاحظ حركة، شخص يقفز فوق كومة أنقاض يجمع أغصان أشجار من الشارع، يكسر شيئاً بحجر. كل ذلك من مسافة طائرة حوامة.
كلما اقتربنا من المحاور اللوجستية – نتساريم، كيسوفيم وفيلادلفيا – نرى عدداً قليلاً من المباني بقي قائماً. الدمار الكبير هنا لكي يبقى. هاكم ما يجب أن تعرفوه، لن يمحى هذا في المئة سنة القادمة، ومهما حاولت إسرائيل إخفاء ذلك وطمسه، سيقرر الدمار في غزة حياتنا وحياة أولادنا، هو دليل على هياج عديم الكوابح. أحد الأصدقاء كتب على حائط غرفة العمليات “هدوء، مقابل هدوء. حفلة نوفا مقابل نكبة”. قادة الجيش الإسرائيلي تبنوا المكتوب.
بنظرة عسكرية، الدمار أمر لا مناص منه. القتال في منطقة مدنية مكتظة أمام عدو مزود بشكل جيد يعني دماراً بحجم كبير جداً للمباني، أو موت مؤكد للجنود. إذا كان على قائد اللواء الاختيار بين حياة الجنود الذين تحت مسؤوليته وتسوية الأرض، فإن طائرة إف 15 محملة بالقنابل ستسير على مدرج “نفاتيم، وستوجه بطاريات المدافع فوهاتها. لا أحد سيخاطر، هذه هي الحرب.
أمهات مع أولادهن يمشين ببطء على طول الشارع. إذا كان لدينا مياه، نعطيهم. القدرات التكنولوجية التي طورها الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب مثيرة للانطباع. قوة النيران، واستخدام النار الدقيقة، وجمع المعلومات بواسطة الطائرات الحوامة، وكلها تعطي وزناً مضاداً للعالم السفلي الذي بنته حماس وحزب الله خلال سنوات.
تجد نفسك تنظر من بعيد لساعات إلى مواطن وهو يجر حقيبة لمسافة بضعة كيلومترات على شارع صلاح الدين. أشعة الشمس تحرقه ثم تحاول الفهم: هل هذه عبوة ناسفة؟ هل هذا ما بقي من حياته؟ تنظر إلى أشخاص يتجولون قرب منشأة خيام في وسط المخيم. تبحث عن عبوات وترى رسومات على حائط بلون رمادي من الفحم. هاكم مثلاً صورة فراشة.
راقبت في هذا الأسبوع مخيم للاجئين من حوامة. رأيت امرأتين تسيران معاً. رأيت شاباً دخل إلى بيت شبه مدمر واختفى. هل هو أحد أعضاء حماس جاء لنقل نبأ لنفق مخطوفين من خلال فتحة نفق سرية؟ تابعت من ارتفاع 250 متراً، شخصاً يركب دراجة ويسافر على ما كان ذات يوم شارعاً في حي – نزهة بعد الظهر داخل كارثة. في أحد المفترقات، توقف راكب الدراجة قرب بيت، خرج منه عدد من الأولاد، ثم واصل إلى داخل المخيم نفسه.
جميع الأسطح مثقبة بسبب القنابل، عليها براميل باللون الأزرق لجمع مياه الأمطار. إذا لاحظنا برميلاً على الشارع يجب نقله إلى غرفة العمليات، واعتباره عبوة ناسفة محتملة. ها هو رجل يخبز الأرغفة وقربه شخص مستلق على فراش. بقوة أي جمود تستمر الحياة؟ كيف يستيقظ شخص في ظل ذعر كهذا ويجد لديه القوة للنهوض والبحث عن الطعام ومحاولة البقاء؟ أي مستقبل يقدمه له هذا العالم؟ درجة حرارة مرتفعة، ذباب، قذارة، مياه ملوثة، وها هو يوم آخر انقضى.
أنتظر كاتباً يأتي ويكتب عن ذلك، ومصوراً يوثق ذلك. ولكن لا أحد غيري هنا. جنود آخرون، إذا كانت لديهم أفكار كافرة، فهم يحتفظون بها لأنفسهم. لا يتحدثون عن السياسة، فقد طلب منهم ذلك، لكن الحقيقة أن ذلك لم يعد يهم ببساطة، فقد قضى 200 يوم في خدمة الاحتياط في هذه السنة. جهاز الاحتياط ينهار، من يأتي أصبح غير مبال، يقلق لمشاكل شخصية أو أمور أخرى مثل الأولاد، الإعفاء، الدراسة، الزوجة، إقالة غالنت، عيناف سنغاوكر، وصول خبز مع شنيتسل. لا شيء ينفعل هنا غير الحيوانات. الكلاب، الكلاب. الكلاب تهز ذيولها وتركض بمجموعات، وتلعب معاً، تبحث عن بقايا الطعام التي تركها الجيش. هنا وهناك تتجرأ على الاقتراب في الظلام من السيارة، وتحاول جر صندوق، ويتم صدها بالصراخ. الكثير من الجراء.
في الأسابيع الأخيرة، اليسار في إسرائيل يقلق من تمركز الجيش الإسرائيلي على محاور العرض في القطاع مثل محور نتساريم. ما الذي لم نقله عنه؟ أنه تم شقه وتوجد عليه قواعد خمسة نجوم، وأن الجيش الإسرائيلي موجود هناك ليبقى، وأنها بنى تحتية أقيمت لإعادة مشروع الاستيطان في القطاع.
لا أستخف بهذه التخوفات. هناك ما يكفي من المجانين الذين ينتظرون الفرصة. ولكن محاور نتساريم وكيسوفيم هي مناطق قتال، بين تجمعات كبيرة للسكان الفلسطينيين، كتلة حاسمة لليأس والجوع والضائقة. هذه ليست الضفة الغربية. التواجد في المحور تكتيكي، أكثر من هدف الاحتفاظ المدني في منطقة، هو يهدف إلى ضمان تواجد روتيني وحماية الجنود المتعبين. القواعد والمواقع العسكرية تتكون من مبان غير ثابتة يمكن تفكيكها وإخراجها خلال بضعة أيام، وتحميلها على الشاحنات. هذا يمكن أن يتغير بالطبع.
جميعاً، بدءاً بالذي يخدم في غرفة العمليات في القاعدة وحتى آخر جندي، واضح لنا بأن المستوى السياسي لا يعرف كيفية مواصلة الطريق إلى جهنم. لا توجد أهداف من أجل التقدم نحوها، وهم غير قادرين سياسياً على الانسحاب. باستثناء جباليا، لا يوجد قتال تقريبا. ثمة قتال على مداخل المخيمات، لكنه جزئي أيضاً، خوفاً من وجود مخطوفين. المشكلة سياسية، ليست عسكرية أو تكتيكية. لذلك، من الواضح لنا جميعاً بأنه سيتم استدعاؤنا لجولة أخرى ولنفس المهمات. حتى الآن يأتي رجال احتياط، ولكن بشكل أقل.
أين تمر الحدود بين معرفة “التعقيد” والخضوع الأعمى؟ متى يكون لك الحق في رفض أن تكون جزءاً من جريمة الحرب؟ هذا أقل أهمية. الأهم هو متى يستيقظ التيار العام في إسرائيل، متى يقوم زعيم ويشرح للمواطنين أي مؤامرة فاسدة نعيش فيها. ومن أول من سيرتدي القبعة المنسوجة الذي سيطلق عليه “خائن”، لأنه قبل “لاهاي”، والجامعات الأمريكية، والإدانة في مجلس الأمن، هو شأننا الداخلي، نحن و2 مليون فلسطيني.
مقاتل احتياط
هآرتس 22/11/2024