ربما لا تنتهي الحرب على لبنان مع نهاية جولات آموس هوكشتين الأخيرة، ليس فقط بسبب إعاقات رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، وتصميمه على الاحتفاظ بحق الإغارة وقصف لبنان، كلما استشعر خطرا من «حزب الله» حتى بعد وقف الحرب الجارية، ما يعني أننا قد نكون بصدد دائرة مفرغة من حروب لا تتوقف، إضافة إلى وجود أطراف أخرى متحمسة وموالية لأوامر ورغبات نتنياهو، ممتدة في شبكة متصلة من واشنطن إلى بيروت نفسها، وتعتبر أن الفرصة باتت متاحة للإجهاز على قوة «حزب الله» والتخلص نهائيا من سيرته، وصناعة وضع لبناني جديد على مقاس التطبيع مع العدو الإسرائيلي.
وقد لا يكون التاريخ يعيد نفسه، لكن حوادثه تتشابه في مغزاها، والتشابه هذه المرة، ليس محصورا بين حرب 2024 الجارية وحرب يوليو 2006، التي كانت قد استمرت لمدة 34 يوما، وأطلق فيها «حزب الله» 3900 صاروخ على تجمعات العدو، وعجز جيش الاحتلال وقتها عن التقدم البري من قرى الحافة الجنوبية اللبنانية، وجرى الاتفاق على وقف إطلاق النار بمقتضى القرار الدولي رقم 1701، وهو ما يعود إليه المتفاوضون الآن بعد أكثر من 18 سنة.
لكن الحرب الجارية مع ذلك، لا تبدو تكرارا لحرب 2006 بالضرورة، ولأسباب كثيرة، فإذا كانت حرب 2006 بدأت بعد أسر «حزب الله» لجنديين «إسرائيليين»، فإن حرب 2024 التي بدأت جولتها البرية مطلع أكتوبر الماضي، بعد نحو عام كامل من حرب «إسناد» حزب الله للمقاومة في غزة، واقتربت الحرب البرية من الخمسين يوما إلى الآن، ودونما نجاح لقوات جيش الاحتلال بفرقه الخمس في فك عقدة 2006، مع استمرار تعثرها عند قرى الحافة الجنوبية ذاتها، وبغير مقدرة على الوصول لخط وادي الليطاني، رغم نيران الجحيم التي صبت على رأس لبنان، وبالذات في مناطق البيئة الشيعية الحاضنة لحزب الله، من الضاحية الجنوبية إلى صور والبقاع، وتدمير عشرات القرى الجنوبية على نحو كامل، وتهجير ما يقارب المليون ونصف المليون من مناطقهم المدمرة، مع أن قوة «حزب الله» زادت أضعافا، وتنامت قدرته الصاروخية كما ونوعا، وصار الحزب قادرا على الوصول بصواريخه النوعية المتطورة إلى عمق الكيان المحتل، وعلى مسافات زادت إلى نحو مئة وخمسين كيلومترا، ومن دون أن تبدو نهاية قريبة للقتال الأشد عنفا، فالعدو يستثمر تفوقه الجوي والنيراني، ويسعى لهدم كل الحجر والبشر في بيئة حزب الله، الذي يستثمر ـ في المقابل ـ مخزونه الصاروخي، إضافة إلى ما بدا من تفوق هائل لمقاتليه في المواجهات الميدانية المباشرة، وفي القتال المتلاحم، وفي التركيز على قصف المواقع والقواعد العسكرية «الإسرائيلية»، وقد لا تكون طاقة تدمير صواريخ «حزب الله» مكافئة لتدمير الطيران الحربي «الإسرائيلي»، لكنها وضعت التجمع «الإسرائيلي» كله تقريبا على صفيح ساخن، وفي أحوال رعب غير مسبوقة لملايين «الإسرائيليين»، في شمال فلسطين المحتلة حتى خليج حيفا، وما بعد حيفا إلى وسط كيان الاحتلال بتل أبيب وما حولها، وبرشقات صواريخ ومسيرات ضخمة تزيد في عجز «القبة الحديدية « و»مقلاع داود» و»صواريخ حيتس» بأنواعها، إضافة لعجز العدو عن تحقيق هدف إعادة مستوطني الشمال، وفشله في إحراز تقدم بري حقيقي ناجز في جنوب الليطاني، والاستعاضة عن عجزه الميداني بترديد أوهام عسكرية عن إنهاك «حزب الله»، وادعاء تدمير أغلب قوته الصاروخية، وفي الوضع الحربي الرجراج القائم، قد يناور العدو الأمريكي «الإسرائيلي» بمبادرات وقف إطلاق النار، وبالتلاعب في عملية إعادة تطبيق صيغة القرار 1701 ذاتها، واشتراط رقابة أمريكية فرنسية تقود إلى وضع مأزوم على الدوام، تتجدد فيه إمكانية العودة إلى الحروب، خصوصا مع التغيرات الأخيرة في واشنطن، والعودة الساحقة للرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير المقبل، وسيطرته على مجلسى الكونغرس الأمريكي، وما نشر حتى اليوم من أسماء تشكيل طاقم إدارته للسياسة الخارجية، وعلى نحو وصفته صحافة العدو بأنه «فريق أحلام إسرائيلي»، وكما يؤثر ذلك سلبا على الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال، وفي نوايا بينة لإعلان تأييد واشنطن «الترامبية» لضم الضفة الغربية، أو أغلبها نهائيا لسيادة كيان الاحتلال، ودفع دول عربية وإسلامية جديدة إلى الانضمام لاتفاقات «إبراهام» سيئة الصيت، وفسح المجال للكيان في غزة، واستكمال حرب الإبادة الجماعية باستئصال عرقي شامل، ولن يكون لبنان و»حزب الله» ـ بطبائع الأمور ـ في معزل عن هذه التطورات الكبيسة المتوقعة.
حتى لو جرى التوصل لاتفاق قلق، يؤدي إلى وقف إطلاق النار على جبهة لبنان لوقت ما، فإن شهية نتنياهو ورجله المفضل ترامب، ستنفتح أكثر لعدوان «إسرائيلي» أمريكي متلازم، عنوانه القضاء على نفوذ إيران
وحتى لو جرى التوصل لاتفاق قلق، يؤدي إلى وقف إطلاق النار على جبهة لبنان لوقت ما، فإن شهية نتنياهو ورجله المفضل ترامب، سوف تنفتح أكثر لعدوان «إسرائيلي» أمريكي متلازم، عنوانه القضاء على نفوذ إيران، وتهديدها بحرب مباشرة على منشأتها النووية، والضغط عليها لفك الارتباط مع «حزب الله» بالذات، ووقف إمداده بالسلاح والصواريخ عبر العراق وسوريا، وترامب لديه من حماقة الاندفاع وغرور القوة ما يكفي، وواشنطن ـ بعد «إسرائيل» ومعها ـ لديها علاقات وروابط وثقى مع تيارات وشرائح لبنانية معروفة، لديها ما يكفي من الرغبات والحوافز للتخلص من سلاح حزب الله، وثبت لديها أن اغتيال القادة الكبار وصولا إلى السيد حسن نصر الله، لا يكفي أبدا لدرء خطر الحزب، الذي استعاد تماسكه الأمني والعسكري بسرعة لافتة، ويدير حربا ضارية ضد الحلف «الإسرائيلي» الأمريكي، وكل هذه الجهات اللبنانية «الإسرائيلية»، تخشى على مصائرها، إذا أوقفت الحرب الجارية، فقد تعني نهاية الحرب رصيدا مضافا لقوة «حزب الله» في الساحة اللبنانية، وقد تعني إعادة إعمار ما تهدم، وعودة السكان «الشيعة» إلى مدنهم وقراهم وبلداتهم، وهؤلاء اللبنانيون «الإسرائيليون»، لا يخفون أحلامهم وأوهامهم، خصوصا مع ترقب تعيين اللبناني الأصل مسعد بولس صهر «ترامب» مبعوثا أمريكيا خاصا إلى لبنان، وهو ما قد يذكر بدور مبعوث أمريكي آخر كان من أصل لبناني أيضا، هو فيليب حبيب، لو كنتم تذكرونه، كان حبيب نائبا لوزير الخارجية الأمريكية، وكان مبعوثا للرئيس الأمريكي الجمهورى أيضا رونالد ريغان إلى لبنان، ولعب دوره المعروف بعد اجتياح العدو «الإسرائيلي» للعاصمة بيروت، وقتها وصلت القوات «الإسرائيلية» من خط الحدود الجنوبي إلى بيروت في ثلاثة أيام، وحاصرت بيروت شهورا، وإلى أن اختنقت القوات المدافعة عنها من «الحركة الوطنية اللبنانية» و»منظمة التحرير الفلسطينية»، بعدها جاء فيليب حبيب بوصفة الحل المسموم، ووافق القائد الفلسطيني ياسر عرفات على إخراج قوات «فتح» ومنظمة التحرير من بيروت إلى المنفى التونسي، ونزلت قوات مشاة البحرية الأمريكية ومشاة البحرية الفرنسية إلى بيروت بدعوى تأمين السكان، وتشجعت الأطراف اللبنانية ذات الهوى الإسرائيلي، وأجبرت نواب البرلمان على عقد جلسة لانتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية، كان الجميل وقتها زعيما للقوات اللبنانية المحاربة للفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية، وشاركت في مذابح مروعة في مخيم «صبرا وشاتيلا» وغيره، وأعلن في 17 مايو عن اتفاق «سلام» مع العدو الإسرائيلي، كان من مضاعفاته، أن جرى اغتيال بشير الجميل، نفسه على يد عناصر من الحزب القومي السوري، ومات اتفاق 17 مايو وقتها بالسكتة الدموية، وقد لا يستبعد أن يتكرر السيناريو نفسه، وضد «حزب الله» هذه المرة، «حزب الله» نفسه، الذي كانت طلائعه وبواكيره، قد قلبت الموقف رأسا على عقب في أواخر 1983، ونفذت عمليات استشهادية ماحقة ضد قواعد مشاة البحرية الأمريكية والفرنسية ومقر الحاكم العسكري «الإسرائيلي» في صور، بعدها بدأت رحلة صعود نجم «حزب الله» ومواجهاته الجسورة مع الاحتلال في أعوام 1993 و1996 حتى تحرير الجنوب عام 2000، ثم تقديمه لأداء عسكري قتالي باهر في حرب 2006، يتكرر الآن على نحو أبلغ في 2024، فيما لا يستبعد هذه المرة، ومع التطورات الراهنة السامة، أن يسعى التحالف الأمريكي «الإسرائيلي» الفرنسي إلى تكرار سيناريو 1982 وما أعقبه، وإلى افتعال «ثورة ملونة» في لبنان، تقودها القوى ذاتها الموالية تاريخيا لكيان العدو «الإسرائيلي»، وترفع شعار تجريد «حزب الله» من سلاحه هذه المرة، وإيصال ممثل عن هذه القوى إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية، وربما التمهيد لعقد اتفاق مشابه لصيغة 17 مايو 1983، وإشعال حرب أهلية جديدة دعا إليها نتنياهو نفسه في خطابات عديدة وجهت للشعب اللبناني، والعودة بقصة لبنان إلى أولها البائس، وقت أن لم يكن من وجود لحزب الله، ولا عداء مع كيان الاحتلال «الإسرائيلي»، وهذه بعض ملامح المؤامرة والرعب الذي ينتظر لبنان.
كاتب مصري