تهجر قصيدة النثر الإيقاع الخليلي، ولعلها تتملص من كلّ إيقاع صوتي مألوف، ولكنّها تنحت إيقاعات مختلفة تخرج من الإيقاع الصوتي أو إيقاع السمع، إلى إيقاعات أ تتقب حواس القارئ على غرار الإيقاع البصري أو المعجمي. فالإيقاع لم يعد يخاطب السمع فقط، بل تبدو كل الحواس معنية به. وإذا كان الإيقاع البصري متصلا بلعبة السواد والبياض وطريقة كتابة القصيدة فإنّ الإيقاع المعجمي الذي نزعمه يقوم على غلبة معجم ما على النص الشعري وتردّده بشكل لافت. فتبدو القصيدة مشكلة من عالم واحد متشابه ينسجها الشاعر من ألفاظ وأشياء أمر ما، كأن يستعمل ألفاظا تحيل على الأم أو على المدرسة أو على الحانة.
هذا الإيقاع المعجمي نرصد نموذجا منه «من سيرة البستاني» القصيدة التي استمد الشاعر عنوان عمله منها وهي مطولة تصدرت الكتاب الصادر في تونس عن دار خريف.
إيقاع البستان ولعبة الأنسنة:
يغلب على هذا العمل معجم البستان وهو معجم يأوي إليه الشاعر، يستمد منه لغته وصوره الشعرية، مسجلا حضوره اللافت في مفاصل العمل برمته، فيأتي متصدرا العنوان والإهداء والقصيدة الرئيسية، ولا تخلو منه بقية القصائد…
فإذا نحن مع استعمال كثيف لمفردات تحيل على البستان، وتنتمي إليه مثل الشجرة، الريح، الظل، النهر، الطيور، العاصفة، المياه، العصفور، الغابة، فراشات، حمام، البستاني. وهي مفردات يتردد بعضها ويتكرّر باستمرار. فالشاعر يستدعي هذه العناصر لتشكل عالمه الشعري وهو بذلك يبدو قريبا من التجربة الرومنطيقية التي تنسج الشعر باعتماد عوالم الطبيعة وجمالياتها. ولكن شمس الدين العوني يسحب من الطبيعة صمتها وجمودها وجمالياتها، ويسبغ عليها روحا إنسانية، ممارسا الأنسنة أو التشخيص. وهي تقنية أدبية تقوم على بث روح إنسانية في الطبيعي والمادي، من خلال إسناد أفعال، أو صفات، أو أعضاء بشرية له، وهو ما نسجله في قصيدتنا. فالطبيعة تقتحم حياة الإنسان وتتحرك ممارسة الأفعال الإنسانية فهي تمرّ بالمقهى، وتذهب في جولة ويتبعها الآخرون، وغير ذلك من الأفعال.
(بمقهى العابرين تمر الشجرة الآن/ سوف تذهب الأرض في جولة وسيتبعها النهر والشجرة والصراخ وبعض شعراء النثر)
وتتواصل هذه العناصر الطبيعية مع بعضها بالكلمات متسائلة:
(أرسل النهار لليل يسأله عن الكدمات والأرق/ قال النهر للعاصفة ما جدوى أن ترفع الأيام أصواتها في خريف كهذا/ تتكلم المياه لتقول ما يشبه الخرير)، بل تتفاعل هذه العناصر مع بعضها وتتعانق وتتصافح:
(ليل يصافح نهارا يعانق نهارا) ويسند الشاعر إلى الطبيعة أعضاء إنسانية مثل العين واليد:
«ها هو الظل العائد من الغابة
مقطوع الآمال
يبحث عن يده اليمنى»
هذه العناصر الطبيعية تفعل الفعل الإنساني، وتتحرك من موقعها وتعبر عن مشاعرها وتطرح أسئلتها، بل تنسب لها أعضاء الإنسان وصفاته. لذلك «علينا معه أن نقبل الجبل، يذهب إلى الحديقة ويكلم البحر ويرى عقله وأفكاره وروحه التي من ماء، وأن نأوي للشجرة على أنها جدة قديمة»، على حد تعبير محمد علي شمس الدين. ويبدو أن الشاعر بهذه الأنسنة يأخذ الطبيعة من وظيفتها الرومنطيقية إلى وظيفة رمزية أعمق.
من البستاني إلى الشاعر:
لا تنغلق القصيدة على عالمها الداخلي ولعبة اللغة، التي يمارسها شمس الدين العوني مستعيرا شيئا من عوالم البستان، ولكنها تحاول أن تضيء عوالمها بإشارات مرجعية من شأنها أن تفتح نوافذ على دلالات هذا الخطاب ونصوصه الخفية. فإذا نحن نقرأ عن بغداد والأندلس وضفاف دجلة والشعراء، وهي إشارات لها مكانتها في الوجدان العربي المكلوم.
(تموء قطة مايكل أنجلو متربعة على تمثال الوقت الذي لم ينحته، إذ هو لم يذهب إلى بغداد… وساحة الأندلس/ في تلك الأيام حيث نستذكر شجرة نائية سترة نهر كان على ضفاف دجلة شعراء يسردون طفولات تلمع عابرهّ… وحكايات لا تصلح لكتب التاريخ والروايات/ أعبر تاركا ظلي في ساحة الأندلس، أين يدعك جواد سليم فكرة حاله وهو يلهج بالتواريخ)
ولعل المعنى يتخفى أيضا في صلة صورة الشاعر بالبستاني. ففي نقاط الالتقاء بينهما تكمن دلالات القصيدة برمتها. ولعل مرد هذا السؤال ذلك الحضور الذي نسجله للمعجم الشعري المتعلق بالشعراء وما نسب إلى البستاني وطبيعته من أفعال وصفات شعرية.
(سوف تقول السلحفاة أسرعوا ولا تزعجوا الموتى…
ازرعوا الكلمات/ مرّ الشاعر مثل راهب قديم يهذي/ نهر يشرب القصائد والكلمات
أيتها الشجرة أخبرينا هل سنشرب من لون القصائد كي نرتوي/ سوف يعرف البستاني بعد حين بعيد كيف كان يربى الوقت في الخضرة. ليكتب بعينيه ما ينفض الشجر والعشب والثمار).
إنّ حضور فعل الكتابة مرتبط بالبستاني، والبستان خيط دال على ما بين الشاعر والبستاني، من تطابق وتقارب حتى كأن صورة البستاني برمتها وتفاصيلها تصير قناعا للشاعر زارع الكلمات والمعاني. ولعلنا في الحقيقة أمام استعارة كبرى فالشاعر يستعير صورة البستاني وعوالمه ليؤثث بها عالمه الشعري.
كاتب تونسي