اللغة أشبه بالإنسان: تولد وتنمو وتشبّ وتهرم وتمضي في طريقها نحو الفناء. ومثل الإنسان تماما، تتعرض في مسار حياتها للنكسات والأمراض، فتحتاج إلى إسعاف وعناية للبقاء. في عالم يطبعه احتكاك بشري دائم وتأثير بيئي محتدم، تُعدّ اللغات أنظمة ديناميكية تنمو وتتطور من خلال التفاعل والتأثير المتبادل. تنتج عن هذه التفاعلات والتأثيرات المستمرة تغيرات معتبرة تصل إلى حدّ انقسام اللغة الأم وولادة تنوعات لغوية جديدة، مختلفة عن غيرها بمفرداتها ومصطلحاتها وقواعدها ونحوها ونطقها.
تتجلى هذه الظاهرة في لغات كثيرة في عالمنا ومنها الإنكليزية، اللغة العالمية المشتركة، والعربية، إحدى أقدم اللغات السامية وأكثرها انتشاراً، والمعترف بها كواحدة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة. فقد نمت هذه اللغات عبر التاريخ وتفرعت منها تنوعات لغوية، متأثرة بجملة من العوامل، نعرض بعضا منها من خلال هذا المقال.
البعد والانعزال الجغرافي
تلعب المسافة الجغرافية والحواجز الطبيعية – من جبال وبحار وأنهار – دورا حاسما في تطور اللغات، وبروز اللهجات الجديدة. فانعزال المجتمعات يساهم في تطور اللغات تطورا مستقلا عن اللغة الأم، ما يؤدي إلى نشأة تنوعات لغوية جديدة مميزة، تعكس هويات ثقافية متعددة. ولعلّ أفضل مثال على ذلك اللغة الإنكليزية الأسترالية المولودة من رحم الإنكليزية الأم، بمفرداتها ونطقها وبنيتها النحوية الخاصة، متأثرة بالمحيط الطبيعي المتنوع البعيد، وانفصالها التاريخي عن مناطق أخرى ناطقة باللغة الإنكليزية ومنها الجزر البريطانية مهد اللغة الإنكليزية. لقد سمح هذا الانعزال بانصهار مفردات وتعابير إنكليزية أصلية وعبارات محلية، ما أفرز نسيجا لغويا ثريا بات اليوم يميّز الإنكليزية الأسترالية عن نظيراتها البريطانية والأمريكية. ومن الأمثلة على ذلك كلمة (باربي) «barbie» التي تعني في الإنكليزية البريطانية دمية شهيرة تمثل امرأة جذابة، بينما تعني «شواء» لدى الأستراليين. وفي الإنكليزية الأسترالية، تعني كلمة (سموكو) «smoko» (أيضا «smoke-o» أو «smoke -oh») استراحة من العمل للتدخين أو استراحة لشرب الشاي، والأمر يختلف في الإنكليزية البريطانية حيث تعني كلمة smoke دخانا أو تدخين سيجارة، وتعني في العامية الإنكليزية البريطانية سيجارة. ينطبق ذلك على اللغة العربية التي تفرعت إلى لهجات متنوعة منتشرة عبرة رقعة جغرافية واسعة تمتد من الخليج إلى المحيط، مع بروز اختلافات أعمق بين التنوعات اللغوية المشرقية والمغاربية نتيجة تباعدها الجغرافي، وهو ما يستحق أن نعود إليه بتفصيل في مناسبات مقبلة.
التجارة والهجرة
وتتطور اللغات مع مرّ الزمن متأثرة بأحداث تاريخية كالهجرة والتجارة. فقد ساهم المهاجرون والتجار في انتشار لغات عبر التاريخ. من هؤلاء العرب الذين أثر لسانهم في شعوب افريقية مختلفة. فقد كان للعربية التي استخدمها التجار في رحلاتهم على طول ساحل المحيط الهندي في شرق افريقيا بالغ الأثر في اللغة السواحيلية. إذ مكّن التفاعل الثقافي السواحلية – وهي لغة بانتو – من امتصاص العديد من المفردات العربية، لاسيما في حقل التجارة والدين والحياة اليومية، نذكر منها «kitabu» (كتاب)، و»hakika» (حقيقة)، و»aibu» (عار) و»samahani» (سامحني /عذرا). وكان للطرق التجارية دور مهم في انتشار اللاتينية إلى المناطق الجرمانية والسلتية، وصولا إلى الجزر البريطانية أثناء الإمبراطورية الرومانية. جلب التجار والمستوطنون الرومان إلى هذه المناطق مفردات لاتينية خلّفت أثرها في اللغات المحلية، خاصة في مجال الزراعة والبنية التحتية والحكم. يتجلى أثرها اليوم في لغات أوروبية ومنها الإنكليزية من خلال مفردات مثل «wall» (جدار)، و»absence» (غياب)، و»street» (شارع).
تأثير الغزو والاحتلال
الاحتلال من العوامل التاريخية المعززة للتغيير اللغوي. فغالبا ما تُفرض لغة الاحتلال على الشعوب المحتلة، فضلا عن تأثيرها الطبيعي في اللغات المحلية. من الأمثلة البارزة الغزو النورماندي لإنكلترا عام 1066 حيث ظلت الفرنسية سيدة لقرون طويلة، وما زال أثرها بارزا إلى يومنا هذا، وكيف لا و30% من المفردات الإنكليزية الحديثة من أصل فرنسي، لاسيما تلك المتعلقة بالقانون والحكم والطبخ، مثل «court» (محكمة)، «government» (حكومة)، «justice» (عدالة)، و»beef» (لحم البقر). وأدى الغزو الفرنسي لإفريقيا إلى هيمنة الفرنسية التي أثرت في لغات بلدان المغرب العربي، لاسيما «العربية الجزائرية»، وتظل الفرنسية إلى يومنا هذا اللغة الرسمية للسنغال، بدلا من «ولوف» و»سيرير» و»ماندينكا»، ولغة الكونغو الرسمية بدلا من «لينغالا» و»كيسواهيلي»، ولغة بوركينا فاسو بدلا من «مور» و»ديولا» و»فولفولدي».
كذلك أثَّر الفتح العربي لشمال افريقيا في القرن السابع في لهجات القبائل الأمازيغية، مجسَّدا في دمج أعداد كبيرة من المفردات العربية في مجالات متعددة، تبقى متداولة إلى يومنا، في حين لا نكاد نلمس أثرا للهجات الأمازيغية في اللغة العربية، مما يوضح تأثير القوى الغالبة وهيمنة اللغة المحتلة ـ لغة الأغلبية.
التداخل اللغوي
يلعب التفاعل اللغوي دورا حيويا في تطور اللغات، حيث يُسهم في ظهور أنماط لغوية جديدة تعكس الاحتكاك الثقافي والاجتماعي بين المجتمعات المختلفة. مثال بارز على ذلك هو تفاعل الإسبانية والعبرية، الذي أدى إلى نشأة لغة اللادينو، وهي لغة يهودية إسبانية يتحدث بها اليهود السفارديم الذين طُردوا من إسبانيا عام 1492 فحلوا في أماكن متفرقة في العالم ومنها شمال افريقيا. في القرن العشرين، تأثرت العبرية الحديثة تأثرا كبيرا بالإسبانية، حيث استعارت منها العديد من المفردات بسبب التبادلات الثقافية وهجرة اليهود الناطقين بالإسبانية إلى إسرائيل، ما أثرى مفرداتها اليومية وتعبيراتها العامية، من المفردات الإسبانية בּוּנקוּ (Bunku) التي تعني بنك أو גיטרה (Guitára) التي تعني غيتار. من جهة أخرى، تعتبر «الإنكليزية الميامية» مثالاً حديثا بارزا على اللغات الناشئة. تشتهر مدينة ميامي بولاية فلوريدا بتنوعها اللغوي الكبير، إذ أن نسبة الناطقين الأصليين باللغة الإنكليزية لا تتجاوز 25% من السكان، بينما تتواصل الغالبية عبر لغات مثل الإسبانية. وقد أدى هذا التفاعل إلى تطوير نمط لغوي جديد فريد من نوعه يمزج بين الإنكليزية والإسبانية، والذي حظي الآن باعتراف رسمي فصار يُعرف باسم «الإنكليزية الميامية».
دور الهوية في إنشاء اللغة
وتلعب الهوية دورا أساسيا في تشكيل اللغات وتطورها، حيث تسعى المجتمعات إلى تكييف اللغة بما يعكس ثقافتها وهويتها الفريدة. مثال بارز على ذلك هو «سينغليش»، وهو نمط غير رسمي من الإنكليزية تطور في سنغافورة. دخلت الإنكليزية إلى المنطقة مع حلول الاستعمار البريطاني في أواخر القرن الثامن عشر، وازدادت أهميتها بعد عام 1819 بفضل المؤسسات التعليمية التي اعتمدتها لغةً أساسية. على الرغم من استخدام المالاوية لغةً مشتركة لحقبة طويلة، فإنّ أثر الإنكليزية كان بارزا حيث أصبحت رمزا للحراك الاجتماعي والتواصل بين الفئات العرقية المتنوعة. ومع مرّ الزمن، أضاف السكان المحليون إلى الإنكليزية عناصر من المالاوية، والتاميلية، واللهجات الصينية، ما أدى إلى ولادة لغة «سينغليش». هذه اللغة ليست مجرد مزيج من تأثيرات لغوية، بل هي أيضا تعبير عن الهوية الوطنية والفخر الثقافي، وجزء مميز من الحياة اليومية والثقافية في سنغافورة.
إعادة بعث اللغات
إحياء اللغة المهددة بالزوال عملية حيوية تعكس التفاعل بين الثقافة والهوية. فإحياء لغة ما لا يعني استعادة المفردات وقواعد اللغة والقدرة على التواصل بها مجددا فحسب، بل أيضا إعادة بناء الروابط الثقافية والاجتماعية التي تجمع الأفراد. في هذا المضمار، تُعدّ الجهود الرامية إلى إحياء لغات مثل الأمازيغية والعبرية نماذج ملهمة. ففي دول المغرب العربي، تطلعت الحركة الثقافية الأمازيغية خلال الستينيات والسبعينيات إلى استعادة هويتها الثقافية من خلال إقرار لهجاتها المحلية لغات وطنية. وهكذا في عام 1995، تأسس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (IRCAM) في المغرب وكان من بين أهدافه الحفاظ على الثقافة الأمازيغية والنهوض بها. وكان من أبرز إنجازات المعهد تبنى أبجدية تيفناغ، المؤلفة من 33 حرفا، لكتابة الأمازيغية بدلا من الخط العربي أو اللاتيني. وفي عام 2011، وفق تعديل دستوري، تم إقرار الأمازيغية لغة رسمية. تبعت الجزائر ذلك، حيث اعترفت بالأمازيغية لغة وطنية ثانية في عام 2002. وفي عام 2016، تمت ترقية الأمازيغية إلى لغة رسمية إلى جانب العربية.
وتُعدّ العبرية من النماذج البارزة في إحياء اللغة، حيث تحولت من لغة مخصصة للطقوس إلى لغة حية تُستخدم في الحياة اليومية، ما ساعد على توحيد الشعب اليهودي وتعزيز هويته الثقافية. يعود الفضل في هذا المسعى إلى إليعازر بن يهودا، الذي أسس واحدة من أولى المدارس الناطقة بالعبرية في عام 1882. ونشر معجما شاملا للعبرية في عام 1910.
يتضح مما سبق ذكره أنّ البيئة والهوية والتاريخ من العوامل الحاسمة المساعدة على تطوّر اللغات ونشأة تنوعات لغوية جديدة. فإن كان «الإنسان ابن بيئته»، فـ»اللغة ابنة بيئتها» أيضا، تتأثر بما تعيشه من مؤثرات طبيعية وثقافية، ما يفسّر انقسام الإنكليزية الأم إلى لغات لها ميزاتها الخاصة مثل الإنكليزية الأمريكية والإنكليزية الأسترالية. وتلعب الهوية دورا في تطور اللغات وإعادة بعثها، تجسدها مساعي إحياء العبرية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتجربة اللهجات الأمازيغية في بلدان المغرب العربي، حيث سعت الحركات الثقافية الأمازيغية إلى استعادة هويتها الثقافية من خلال إقرار لغاتها المحلية لغات وطنية.
وللأحداث التاريخية – من غزو واحتلال – أيضا عميق الأثر في تطور اللغات بإدخال مفردات جديدة وتغيير البنى اللغوية، مما يسهم في إثراء اللغات وتغيير طبيعتها ومساراتها. وقد يؤدي إلى نشأة تنوعات جديدة نتيجة تفاعل اللغة المُحتلة واللغة المحلية، تجسده نشأة «سينغليش» في سنغافورة و»العربية الجزائرية» التي تتخللها مفردات باللغة الفرنسية، من مخالفات 132 سنة من الاحتلال الفرنسي. وهذه التنوعات اللغوية، بكل ما تحمله من تاريخ وثقافة وهوية متعددة، مواضيع تستحق أن نعود إليها ونلقي الأضواء عليها لاحقا.
كاتب جزائري