لا يبدو أن الحوار النخبوي الساخن يُحدث أي فرق في الأجواء الباردة التي تعيشها العاصمة الأردنية عمّان، ولا يظهر أن المواطن الأردني منشغل بالخيارات التي يتجاذب أطرافها سياسيون متقاعدون وصحافيون، تدور بين فكرتي الاستجابة والمواجهة. والسبب الرئيسي في ذلك هو غياب المواقف الواضحة، إذ يفضل الجميع انتظار ما سترشح عنه الأسابيع المقبلة من تغييرات رسمية في بنية الإدارة الأمريكية. كما يعود جانب من الخيبة من بناء موقف شعبي إلى الفشل في تحقيق حضور حزبي يدفع بوجوه قيادية قادرة على التعامل مع الأسئلة الكبرى المعلّقة بصورة تمثيلية واضحة، ما يجعل الأردنيين منصرفين عن طروحات النخبة وأفكارها.
ينقسم المشهد إلى فريقين رئيسيين يتبادلان تسويق فكرتين متناقضتين؛ تسعى الأولى إلى استيعاب ما تفرضه الولايات المتحدة، في ظل قلة الخيارات المتاحة، والتجربة التاريخية التي رسخت فكرة أن التعامل مع سياسة الأمر الواقع، دون مشاركة أو اندماج، لم تُمكن الأردن من تحقيق أي مكاسب سياسية أو اقتصادية. وفي المقابل، تؤكد الثانية ضرورة الدخول في مواجهة ذات طبيعة وجودية، قد تصل بالأردن إلى حالة حرب أو عزلة، مع تحمل التكلفة الكبيرة لذلك.
تعيش المخيلة السياسية الأردنية منذ سنوات طويلة عقدة «واشنطن»، وتؤمن بوجود قاعدة بأن الأردن بلد ليس له أن يطفو، ولا يمكن أن يغرق
ليس للأردن اتصال مع الفريق الذي يعده الرئيس الأمريكي المنتخب، وهو الفريق القادم من خارج الأطر التقليدية للسياسة الأمريكية، ولذلك، فالحصول على معلومات يمكن بناء أية توجهات بخصوصها يبدو متعذرا، والمتاح أردنيا هو تقليب الفرضيات ضمن الأفق المنطقي للتصورات الخاصة بالإقليم والعالم، وتبدو المشكلة أن ترامب يعمل خارج المنطق التقليدي، وتبدو اللمسة الشخصية حاضرةً في تصرفاته، كما بدا واضحا مع اعترافه بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال، ولذلك، تبدو القيادة الأردنية غير معنية بممارسة الرياضة الذهنية، والتورط في التفكير الرغائبي، فآخر ما يعني ترامب، لأسباب اقتصادية وأخرى سياسية، أن يستقبل ورقة الأمنيات والتطلعات الأردنية. تعيش المخيلة السياسية الأردنية منذ سنوات طويلة عقدة «واشنطن»، وتؤمن بوجود قاعدة بأن الأردن بلد ليس له أن يطفو، ولا يمكن أن يغرق، واستثمرت السياسة الأردنية العلاقة المركبة والطويلة مع الأمريكيين لتأكيد ذلك، ولكن هذه المرحلة تؤكد ضرورة استبعاد هذه النظرية أو على الأقل عدم الوثوق في صلاحيتها بالدرجة نفسها، ويبقى أمام الأردن في هذه الحالة الالتفات إلى محورها العربي من الدول الحليفة في الخليج ومصر، هي التي تحركت في الكثير من المواقف لتثبت هذه النظرية، وآخرها التداعي لقمة مكة التي عقدت لتقديم حزمة مساعدات للأردن لاحتواء احتجاجات قانون الضريبة في 2018، وينضاف مؤخرا لاعبون إقليميون آخرون، في مقدمتهم تركيا، التي يظهر رئيسها رجب طيب أردوغان في الصورة من جديد، وكأنه يمتلك تفويضا لإمضاء اتفاق وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، ليكون مدخلا لمباشرة تسوية جديدة، لا يمكن أن تخرج بأية حال عن ترتيبات عالمية، تتيح للأمريكيين الحصول على موقع أفضل في الصراع مع الصين. ربما لا يبدو تأكيد واقع السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية كمبدأ أمرا جدليا في حد ذاته، والتقدم الحالي يجب أن ينصرف إلى التفاصيل، التي تتوزع بين اعتباره جزءا عضويا من إسرائيل، أو حديقة خلفية لوجودها، وهل سيكون ذلك مرتبطا بعمليات تهجير خشنة أو ناعمة، أم بالإبقاء على كتلة سكانية لن تجد أمامها للتواصل سوى الارتكان إلى الأردن، في تعبير عن مقولة تحدث بها أحد المهنيين الفلسطينيين، عن تمكنه من زيارة عمان لأكثر من مرة خلال العام الماضي، بينما قام بتأجيل زيارته الواقعة في جنوب الضفة الغربية لأن الرحلة تستغرق وقتا طويلا، وتكتنفها مخاطر مثل التعرض للعنف أو الاعتداء أو المهانة.
أي من هذه التصورات يتطلب مقاربة أردنية للتعامل معه، ولكن الأردن لا يستطيع أن يتقدم بتصور مبدئي، لأنه سيعتبر ورقة ضغط ستمارس عليه في وقت لاحق، والتأكيد على ثوابته هو موقف، بينما الحديث عن خياراته يبدو أمرا مختلفا، بمعنى أن الظروف التي أنتجت اتفاقية وادي عربة بعد اتفاقية أوسلو، تشكل جزءا من معادلة ضرورة التناسب مع الواقع الفلسطيني في الملف الأردني، لأن ذلك مرتبط بالعلاقات الأردنية ـ الدولية والعربية كذلك، وبذلك تتحول المسألة السياسية في حالة استبعاد التهجير، الذي يعتبر الأردن الخط الأحمر الذي لا يمكن التجاوب معه، لا بالترغيب ولا الترهيب، إلى مجموعة من الاستجابات الأردنية التي يجب عقلنتها في الحديث الذي بات استقطابيا بصورة مقلقة، تؤكد أنه لا يوجد أمام الأردن أي طريق آخر، سوى الاستسلام أو المواجهة، وكلاهما مكلفان للغاية، وفي مرحلة لا تتوفر على ما يمكن وصفه بالظروف المواتية لبلد مرهق اقتصاديا، يعايش لقرابة العقدين من الزمن واقعا ملتهبا في دولتين كانتا تمثلان عمقًا للمناورة الأردنية، وكانتا ضمير الغائب في المواقف التفاوضية للأردن. زيارات الملك عبد الله الثاني ولقاءاته، تهدف إلى قياس مدى المرونة التي يمكن التحصل عليها في المرحلة المقبلة، فالأردن لا يمكن أن يدخل في مواجهة مع الأمريكيين وتحالفاته العربية والإقليمية في وقت واحد، والمتوافق عليه، من النتائج المتحققة، هو أن الأردن ما زال يمثل خيارا عربيا ضروريا على الأقل، وأن القائمة التي يمكن أن يتلقاها الأمريكيون ستعبر عن المواقف والتطلعات الأردنية إلى حد ما، وبصورة أو بأخرى، وفي الوقت نفسه، يقود الحكومة الأردنية مدير مكتب الملك السابق الذي عايش تفاعلات الأحداث قبيل وبعد الحرب على غزة، وبخبرته في موقع يتطلب الوقوف على مسافة واحدة من الأطراف في الداخل والخارج، يبدو الرئيس جعفر حسان متمسكا بوجه لاعب البوكر، ومنغمسا في التفاصيل اليومية لحكومته، ويستغرق المجلس النيابي في مناكفاته، وكأن الرسالة الواضحة هي تجنب استباق الأحداث في مرحلة غامضة من التفاعلات المتسارعة والمفاجئة، ولكن الأمر لا يبدو كذلك على مستوى النخبة الأردنية، التي اعتادت أن تتسلق على أكتاف الدولة وتتحول إلى عبء مزعج حتى في أشد اللحظات حساسية وتوترا.
كاتب أردني