لا نجد تفسيراً منطقياً لمتناقضين اثنين في سياسة الولايات المتحدة، حيال ما يجري في قطاع غزة والمنطقة؛ ففي الوقت الذي تطالب فيه الولايات المتحدة الأمريكية بإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، وتلح على المجتمع الدولي بذلك، وتطالعنا كل يوم بتصريح أو ببيان صحافي أو بمقابلة لأحد المسؤولين من أركان إدارة البيت الأبيض، يتناول الموضوع ذاته، تستخدم في مجلس الأمن حق النقض (الفيتو) للمرة الخامسة في غضون سنة واحدة، ضد مشروع قرار يدعو إلى الوقف الفوري لإطلاق النار.
والسؤال هنا ما الذي يبرر هذا التناقض بين القول والفعل الأمركي الحقيقي؟ كيف يمكن إدخال المساعدات وعمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والقصف بالقنابل الحارقة لخيم النازحين – وآخرها في النصيرات- وعمليات الحصار والتجويع، ومنع التطعيم بلقاح شلل الأطفال، وتدمير المشافي في شمالي غزة ما تزال متواصلة؟ ألا يثير هذا الموقف استهجاناً واستغراباً؟
من يسعى إلى إفشال أي مبادرة لإيقاف إطلاق النار، وإنهاء العدوان على الشعب الفلسطيني؛ لا يمكن أبدا الوثوق بوعوده لإيجاد حل للقضية الفلسطينية
إن دلالات هذا الموقف وغيره مما سبقه، ليس له إلا تفسير واحد وهو الانحياز الكامل لدولة الإرهاب وقادتها الفاشيين، ومساندتهم في عدوانهم الإجرامي، بل الأكثر من ذلك مشاركتهم فيه، إن أي متابع لمفردات الموقف الأمريكي وتطوراته، منذ بداية الحرب وحتى الآن، يلمس بكل تأكيد هذه المشاركة في الحرب، التي تعدت الإسناد والدعم اللوجستي والدبلوماسي والسياسي. إن معظم مواقف الدول تغيّرت بعد افتضاح كذب ورياء ونفاق وخداع السردية الإسرائيلية للأحداث. واتضح هذا من خلال تأييد مشروع القرار من قبل الدول الأربع الدائمة العضوية في مجلس الأمن والدول العشر غير الدائمة العضوية، وانفراد الولايات المتحدة فقط بإفشاله باستخدام «الفيتو». ولعل إقرار مشروع القرار هذا، كان خشبة الخلاص لأبشع حرب عرفتها البشرية في القرنين الأخيرين، ولربما كان أيضا استجابة لكل الدعوات الإنسانية للدول والهيئات والمنظمات العاملة في الحقل الإغاثي والإنساني، وتسهيلاً لمهامها وواجباتها. إن إمعان إدارة بايدن المنتهية ولايتها بهذه العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، يشير إلى حقيقة الموقف الأمريكي المتفرد والمتحكم بالسياسة والإرادة العالمية، من خلال فرض أجندته على العالم، كما يمثل تهديدا وانتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، والأعراف والمواثيق التي تضمن حقوق الإنسان زمن الحروب. كما يعبر عن ممارسات استعمارية استبدادية، أبعد ما تكون عن الالتزام بالمواثيق والاتفاقات الدولية، التي ترعى حقوق الإنسان والأمن والسلام العالميين؛ وهذا بدوره يعتبر انهياراً أخلاقياً لإدارة بايدن، كما يحمل دلالة أخرى تتجلى بمنح القادة الفاشيين الصهاينة صك براءة من مجازر الإبادة الجماعية التي يرتكبونها، بتحميل الطرف الفلسطيني مسؤولية تعطيل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وعقد صفقة تبادل الأسرى. أيضا تحميل المقاومة مسؤولية شن هجمات مسلحة على المستوطنين. ومن جهة أخرى يمنح «إسرائيل» الفرصة في استمرار حرب الإبادة والتطهير العرقي دون رادع. ويؤكد هذا الموقف أن إدارة بايدن – التي خسرت الانتخابات الرئاسية ـ منفصلةً عن الواقع، وتمعن بتجاهل نبض الشارع الأمريكي والنخب المجتمعية الرافضة لهذه السياسة الرعناء لاستمرار الحرب العدوانية، التي طالما طالبت بوقف تزويد الكيان بالسلاح والقذائف التي تقتل الأطفال والنساء يوميا، وهذا ما طالب به مؤخرا السناتور الأمريكي بيرني ساندرز، الذي قال «إن الولايات المتحدة شريكة إسرائيل في هذه المجازر، وهذا التواطؤ يجب أن ينتهي، وأن عرقلة وصول المساعدات لغزة ما هو إلا انتهاك للقوانين الأمريكية».
إن إعلان رأس الإدارة الأمريكية بايدن الراحل قريباً، بأنه صهيوني ويعتز بصهيونيته، يدلل على تماهي أهدافه وأهداف رأس القادة الفاشيين نتنياهو منذ بداية الحرب. وكأنه ما زالت في جعبة هذا الأخير أهداف يريد تحقيقها، وما على الرئيس بايدن إلا أن يعطيه المزيد من الوقت لإكمال إنجاز المهمة، التي باتت مكشوفة للعالم أجمع، وهي تهجير الغزيين وإعادة التحكم بقطاع غزة، تمهيدا لبسط السيادة الإسرائيلية عليه، وفي ما بعد الإقدام على ما هو أخطر؛ وهو ضم الضفة الغربية، وتهجير الفلسطينيين إلى الأردن. أما أسوأ ما ينطوي عليه هذا الفيتو الأمريكي؛ فهو افتضاح أمر الإدارة الأمريكية بمناورتها الزائفة والمخادعة، بوعودها وتعهداتها بمقترح حل الدولتين. إن من يسعى إلى إفشال أي مبادرة لإيقاف إطلاق النار، وإنهاء العدوان على الشعب الفلسطيني؛ لا يمكن أبدا الوثوق بوعوده لإيجاد حل للقضية الفلسطينية. وما طرح حل الدولتين الذي تتبناه هذه الإدارة، وغيره من الطروحات، إلا ذر رماد بالأعين؛ لكسب الوقت وتفادي الإحراج داخليا وخارجيا، وللظهور بمظهر الحريص والمدافع عن السلام والاستقرار في العالم. لكن الواقع يعكس غير ذلك بالمطلق؛ لأن كل ما تتبناه هذه الإدارة وغيرها ممن سبقها من الإدارات المتعاقبة، وما سيأتي بعدها يصب كله في مصلحة «إسرائيل» وأن كل الاعتداءات والحروب التي تشنها هذه الدولة المارقة ما هي إلا «دفاع عن النفس» كما دأب المسؤولون الأمريكيون – ديمقراطيين وجمهوريين- على تبرير جرائمها.
من ناحية أخرى، إن ما أقدمت عليه إدارة بايدن باستخدامها لهذا الفيتو ما هو إلا تجسير للعلاقة مع الإدارة المقبلة لترامب المزهو بانتصاره، وتقاسم للأدوار يفضي إلى تعطيل أي حل في غزة لصالح هذا الأخير، مقابل إعطاء فرصة الحل الذي يجري تداوله في لبنان لإدارة بايدن العرجاء؛ تطبيقا للمثل العربي «حتى لا يطلع من المولد بلا حمص». إن هذا التناغم بين الإدارتين – الحالية الراحلة قريبا والأخرى المقبلة – يعبر عن ثوابت السياسة الأمريكية تجاه «إسرائيل»، وتجاه القضايا العربية، وعلى الأخص القضية الفلسطينية. هذا ما يوضحه الدعم الأمريكي المتواصل وتواطؤ وشراكة الزعماء الأمريكيين مع مشروع نتنياهو للشرق الأوسط الجديد، والذين لا يرون في قضايانا إلا مجرد استثمارات وتحكما بالثروات والمقدرات العربية، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإنكار مستمر لحقوق الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على مزيد من الأراضي ليست الفلسطينية فحسب، بل أراضٍ عربية أيضا تصل إلى الفرات والنيل؛ كما ظهر على الخريطة التي يضعها الجنود الإسرائيليين على أذراعهم.
على الضفة الأخرى، جاء استخدام الفيتو الأمريكي الخامس، عشية إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، على خلفية ارتكابهما جرائم حرب؛ ما يؤكد الحاجة الملحّة لوقف إطلاق النار. وما تأييد دول العالم قاطبةً لقرار الجنائية الدولية من جهة، والتقليل من أهميته من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن من جهة أخرى، إلا برهان على أن الولايات المتحدة ما زالت تغرد بعيداً ومنفردةً عن السرب العالمي. كما يأتي متزامنا مع تشديد الحصار والقتل والتدمير والتجويع في شمال غزة، وعلى وقع المجازر في النصيرات وبيت لاهيا ومشروعها وجبالها ومخيمها. وكل هذا يؤكد العدوانية البايدنية ضد شعبنا، وانحيازه ودعمه الكامل للكيان. السؤال هنا، هل ستكون إدارة ترامب المقترحة- التي تبدو منحازة سلفا وبشكل سافر إلى دولة الكيان- أشد عدوانيةً على شعبنا؟ لاسيما أن الوزير المتطرف سموتريتش ينتظر دعمها بضم الضفة الغربية، متناغماً مع إشفاق دونالد ترامب على «إسرائيل»، التي حسب قوله «لا تملك إلا مساحة صغيرة وبأنها تحتاج لمساحة أكبر».
فهل ننتظر «فيتوات» أمريكية بايدنية أو ترامبية مقبلة؟
كاتب فلسطيني