لم يتمخض الجبل فولد فأراً، فالصحيح أنه تمطع فولد فأراً ميتاً!
فبعد أكثر من ستة شهور من العيش في الحرام القانوني، صدرت حركة تنقلات المجالس الإعلامية الثلاثة، ليدهشك كيف يكون الاختيار بؤساً، وكيف تكون المقارنة مع زمن ولى أننا نعيش أزمة حقيقية!
فالذين يتابعون هذه الزاوية الطيبة المباركة «فضائيات وأرضيات»، ربما يتذكرون أنني كتبت عن الأزمة داخل دوائر السلطة المصرية، التي ترتب عليها الإبقاء على التشكيل الذي انتهت مدته القانونية بنهاية يونيو/حزيران الماضي، واستدعى الأمر الانتظار لحين عودة البرلمان ليصدق على التشكيل الجديد، ومع أنه عاد في بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فمن الواضح أن الولادة كانت متعسرة، لدرجة أن ينتظروا لأكثر من شهر ونصف الشهر، ليفرغوا من هذه المهمة التي تبدو أنها عسيرة، وعندما يطالع المرء الأسماء المختارة، يستقر في وجدانه أنها حركة تنقلات؛ تشبه الحركة السنوية لضباط الشرطة، فينتقل هذا المسؤول الشرطي من موقع إلى موقع، ومن الوظيفة إلى التقاعد، ومن القاهرة إلى أسوان، أو العكس، ومن شرطة المرافق إلى مطار القاهرة، ومن مكافحة التطرف الديني إلى شرطة السياحة!
الاختيار من خارج دائرة اللا معقول
فالوزير السابق خالد عبد العزيز، صار رئيس المجلس الأعلى للإعلام، وكان لا بد من انتظار الإطاحة باللواء عباس كامل، مدير المخابرات العامة، للإطاحة بكرم جبر المحسوب عليه، وكان البديل له هو ضياء رشوان، لكن صوتاً من داخل السلطة كان مع استمراره لأنه قادر على قمع من يفكر في التمرد في جلسات الحوار لا سيما من اليسار، يفعل هذا دون أن يهتز له رمش!
وإذ أطيح بكرم جبر، فكان الاختيار من خارج دائرة المعقول، فالوزير السابق حل محله، في عملية التدوير التي يعتمدها النظام، الذي يعتمد سياسة: «عد غنمك يا جحا».. فقال حجا: «واحدة نائمة وواحدة قائمة»، عندما تصبح الدول في حدود ثكنة عسكرية، وتصبح الخيارات بائسة!
كرم جبر بدوره، جاء من رئاسة الهيئة الوطنية للإعلام إلى رئاسة المجلس الأعلى للإعلام، في مؤامرة التخلص من مكرم محمد أحمد، الذي مرض بعدها ومات مكلوما، لأن ما تعرض له كان إهانة. وقد جاء جبر للوطنية للإعلام من رئاسة مجلة روزا اليوسف!
وفي الأخير، فإن كلاً من مكرم محمد أحمد وكرم جبر، صحافيان، الأول شغل موقع نقيب الصحافيين لسنوات، ومن هنا فإن رئاستهما للمجلس منطقية، فما علاقة مهندس الاتصالات والوزير السابق خالد عبد العزيز بالإعلام، ولم يكن من اهتماماته، إلا من زاوية واحدة وهي حجب المواقع الإلكترونية، وللعلم فـ «القدس العربي» من المواقع المحجوبة في مصر!
وقد تم تجديد الثقة في المهندس عبد الصادق الشوربجي (يبدو أن الإعلام سيحكم من نقابة المهندسين)، فاستمر رئيساً للهيئة الوطنية للصحافة، فالرجل شغل موقع مدير المطبعة في مؤسسة «روزا اليوسف»، وفي زمن هبطت طباعة الصحف للحضيض، فما معنى أن يكون المسؤول عن الصحافة القومية مهندس طباعة!
العودة للمعسكر
وقد تم استدعاء جندي الاحتياط أحمد المسلماني لرئاسة الهيئة الوطنية للإعلام، البديل لاتحاد الإذاعة والتلفزيون، والتي تدير الإذاعة والتلفزيون المملوكين للدولة، وهو من خارج المبنى وخارج السياق، فليس مطلعاً على تفاصيله، وخبرته كلها في الصحافة المطبوعة (باحث في مركز الأهرام)، الى جانب برنامج تلفزيوني في قناة خاصة، يغلب عليه طابع المدرس وهو يشرح الدرس لطلاب المرحلة الابتدائية!
وقد تم اختياره مستشاراً إعلامياً للمؤقت عدلي منصور، فوسع من دائرة نفوذه حتى صار يعقد اجتماعات مع رؤساء الأحزاب نيابة عن منصور، مع أن هناك مستشاراً سياسياً له، وقد أحيل المسلماني للاستيداع، بلغة العسكريين، كما كل المستشارين، وهذا من طبائع الأشياء، فعقب فوز السيسي بالرئاسة تم الإعلان عن استقالة كل المستشارين للمؤقت، وصاحت المستشارة سكينة فؤاد في البرية: أنا لم أقدم استقالتي ولدي استعداد للعمل مع الرئيس السيسي، ولم تنتبه لأن كل وقت وله آذان!
ولهذا إذا كان من الطبيعي إحالة المسلماني للاستيداع، فإن من غير الطبيعي أن يُستدعى للعودة للمعسكر من جديد، فقد تبين أنه لا يزال في فترة الاحتياط، ليعمل في غير فنه!
وممن جاء من الاستيداع للاحتياط، ومنه للمعسكر، عصام الأمير، أول رئيس اتحاد للإذاعة والتلفزيون، والذي تصرف بعنترية وصفقت له وزيرة الإعلام الفاشلة درية شرف الدين، عندما أعلن أنه سيذيع مباراة يلعب فيها المنتخب المصري، رغم أنف القطريين، مع أن حقوق البث حصرياً لقنوات «بي إن سبورتس»، لأنه وجد كل الأمور تُأخذ بالذراع، وها هو يرى رئيساً منتخباً يعزل، فتصرف في حدود اختصاصه كجنرال يرأس الاتحاد.
وبعد أن ذهبت السكرة وحلت الفكرة، وصدر حكم بالإدانة لصالح القناة القطرية والتعويض، لأن الكرة تحكمها قوانين أقوى من قوانين الدول، تحمل وحده المسؤولية فعزل، وقد ألمني كثيراً أنهم فصلوه كموظف في التلفزيون، وحرموه من راتبه، وهو عقاب قاس، في تصرف، بحضور وزيرة للإعلام، ورئيس مؤقت، وقائد انقلاب، ومستشار إعلامي للرئيس المؤقت، عينه له قائد الانقلاب!
المقارنة في اختيارات عبد الناصر والسادات
وفي حركة التنقلات تم اختيار عدد من رؤساء المؤسسات القومية السابقين وهم عمرو الخياط (رئيس تحرير أخبار اليوم السابق) ورئيس قناة المحور (ربما إلى الآن)، وعبد المحسن سلامة (رئيس مجلس إدارة الأهرام السابق)، وعلاء ثابت (رئيس تحرير الأهرام السابق)، والأول والأخير لعضوية الهيئة الوطنية للصحافة، وسلامة لعضوية المجلس الأعلى للإعلام!
وبشكل شخصي، فقد تمنيت أن تكون وظيفة الهيئة الوطنية للإعلام مناسبة لأسامة كمال، والرجل حير القوم معه، فيعيدوه للشاشة فيفشل، فيحيلوه للاحتياط، ثم يعيدوه مرة أخرى لعل وعسى، فيفشل، فيحال للاحتياط، ثم يعود مرة أخرى فلا أحد يسمع بعودته أو عزله، حتى قلت لأولى الأمر منه كفى تمثيلاً بجثته، ولعلهم كانوا بين كل عودة وعودة، يعتقدون أنه يمكن أن يخيب الظن فيه، لكن دون جدوى، ويبدو أنهم يشعرون تجاهه بالمسؤولية الأبوية، وهذا أفضل اختيار، من حيث كونها وظيفة مضمونة، وفي الوقت ذاته لا تحتاج إلى أصحاب الكفاءات الخاصة!
ولأنها دولة على الضيق فإن علا الشافعي، التي فوجئنا بقرار الشركة المتحدة بتعيينها رئيساً لتحرير جريدة «اليوم السابع»، وهي محررة فنية مجتهدة، لكن ليس لها بصمة ماجدة خير الله، أو حضور طارق الشناوي، ومع المفاجأة في هذا الاختيار الذي هو على مقاس المرحلة، تجمع بين رئاسة التحرير وعضوية المجلس الأعلى للإعلام!
وعندما تنظر للقوائم التي تم اختيارها في هذا التشكيل، لا سيما ممن يحسبون على الشخصيات العامة، ومنهم علا الشافعي، وسحر الجعارة، وأسامة كمال، وسامح محروس، ثم تنظر لأول تشكيل للمجلس الأعلى للصحافة قبل أربعين عاماً، ستقف على معنى بؤس الاختيار، وتقزيم الدول، لا سيما إذا كان الأمر متعلقاً بدولة في حجم مصر!
فمن الشخصيات العامة أعضاء الأعلى للصحافة في عهد السادات؛ خليل صابات، وحسين مؤنس، وثروت أباظة، وعبد الرحمن الشرقاوي، واحسان عبد القدوس، وصلاح عبد الصبور، وحافظ محمود، ومحمد زكي عبد القادر، وأمينة السعيد.
ولا شك أن اختيارات أصحاب القامات المنخفضة في كل المجالات، ومنها مجال الإعلام، إنما هو لاستيفاء الشكل، الخاص بمؤسسات الدولة، لكن من يدير المشهد أفراداً من خارج الكادر، ولم يعد سراً أن من كان يدير الإعلام على مدى أحد عشر عاماً، كان ضابطاً اسمه أحمد شعبان، ومع هذا فالجنرال يحسد عبد الناصر على إعلامه، ومع أنه ليس عبد الناصر، فلنا أن نسأل عن هيكل الذي بجانبه، أو في خياراته كلها!
فحتى عندما أمم عبد الناصر الصحافة، فإنه أول تشكيل لمجلس إدارة المؤسسات الصحافية المؤممة لم يخل من وجهاء الصحافة والفكر.. خذ عندك!
فإدارة صحف دار الهلال والأهرام (مؤسسة واحدة) ضمت؛ فكري أباظة، ومحمد حسنين هيكل، وتوفيق الحكيم. ومؤسسة الأخبار ضمت؛ محمد التابعي، ومصطفى أمين، والسيد أبو النجا، ومحمد زكي عبد القادر، وأحمد بهاء الدين، وجلال الحمامصي، وروزا اليوسف ضمت؛ احسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، وفتحي غانم، ومؤسسة الثورة (دار التحرير)، وإن كان في مجلس إدارتها اثنان من الضباط الأحرار صلاح سالم ووجيه أباظة، فقد كان فيه طه حسين!
أرجوك، لا تقل إن مصر ترجع إلى الخلف.. ليتها ترجع!
صحافي من مصر