دهوك العراقية المدينة الشاهقة

صادق الطائي
حجم الخط
0

دهوك مدينة عراقية تقع بإقليم كردستان العراق، وهي مركز قضاء دهوك التابع لمحافظة بنفس الاسم. تقع محافظة دهوك بالشمال الغربي للعراق وتبعد إلى الشمال من مدينة الموصل مركز محافظة نينوى حوالي 73 كم، وترتبط بحدود مع تركيا، وهو ما يعطيها أهمية إستراتيجية. كما تتميز تضاريسها بالوعورة والمرتفعات الجبلية. يحدها من الاتجاهات الثلاثة جبال ما يعطي المدينة منظرًا خلابا. وتقع هذه المدينة وسط سلاسل من الجبال حيث تحدها من الشمال سلسلة جبال الأبيض، ومن الجنوب جبال الأسود، ويمر في وسط المدينة نهران صغيران أولهما ينبع من قرية خازيافا في الشمال ويتجه نحو الجنوب وقد بني عليه سد في وادي دهوك عام 1980. أما النهر الثاني وهو هشكرو فينبع من مكان قريب لقرية بري بهاري في الشمال ويتوجه جنوبا حيث يلتقي بالنهر الأول في أقصى جنوب غرب المدنية. ويستفاد من هذين النهرين في ري المزارع والحقول. تتبع إداريا لقضاء دهوك عدة نواحي هي: ناحية زاويتة، ومانكيشك، وخانكي. يقدر عدد سكانها بحوالي 250 ألف نسمة غالبيتهم من الأكراد المسلمين كما يسكنها المسيحيون من طائفة النساطرة الآثوريين أتباع الكنيسة الشرقية، والكلدان من أتباع الكنيسة الكاثوليكية بالإضافة إلى الإيزيديين. تضم المدينة جامعة دهوك التي تأسست عام 1992 وهي اليوم واحدة من الجامعات العراقية الرصينة.
لمحافظة دهوك أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة للعراق ولإقليم كردستان، حيث تضم المعبر الحدودي الرئيسي مع تركيا، الأمر الذي أكسبها أهمية اقتصادية كبيرة. وتذهب نسبة كبيرة من صادرات تركيا إلى العراق وإلى مناطق في الشرق الأوسط عبر هذه البوابة الحدودية، وتعبرها يوميا مئات الشاحنات في الاتجاهين، ما يعطي أهمية تجارية واقتصادية متزايدة للمدينة. وبالإضافة إلى ذلك، تعد دهوك ومصايفها مقصدا سياحيا جاذبا بسبب مناخها المعتدل ومرتفعاتها الجبلية وتضاريسها المتنوعة. كما تشتهر المدينة باحتضانها العديد من المواقع الأثرية التي يقبل عليها السياح والمهتمون بالآثار، مثل كهف جارستين الواقع في جبل بمنطقة سد دهوك، وتشير بعض التقديرات إلى وجود أكثر من 150 موقعا أثريا تاريخيا فيها.
ونتيجة لما تعيشه دهوك من أمن واستقرار وازدهار، شكلت مع بقية مدن كردستان العراق مأوى وملجأ لمئات آلاف اللاجئين والنازحين منذ انهيار الأوضاع الأمنية، وبشكل خاص بعد استيلاء تنظيم الدولة «داعش» على مناطق شاسعة في سوريا والعراق. ومع مرور الوقت أصبحت دهوك تحوي أكثر من 27 مخيما للاجئين. وحسب تصريح المدير العام للشؤون الإنسانية في حكومة إقليم كردستان فإن دهوك تستضيف أكثر من 700 ألف نازح ولاجئ، سواء في المخيمات أو في بيوت تم استئجارها داخل المدينة، وهم من قوميات وديانات مختلفة من عرب ومسلمين ومسيحيين وإيزيديين.

الاسم والتاريخ

ترشدنا الآثار الموجودة في دهوك إلى تاريخها الضارب في عمق تاريخ حضارة وادي الرافدين، إذ يعود أصل المدينة إلى العصر الحجري القديم، وقد أصبحت جزءًا من الإمبراطورية الآشورية ثم البابلية والأخمينية قبل أن تقع بيد الإسكندر المقدوني والرومان. وأصبحت مركزا هاما للمسيحية السريانية حيث عرفت باسم بيث نوهدري، قبل أن تتلاشى بعد غزوات تيمورلنك ثم تنهض مجددا.
ويذكر الأستاذ جمال بابان في كتابه «أسماء المدن والمواقع العراقية» ص125: «يقول البعض إن اسم دهوك مشتق من ديهيهك وتعني قرية أو قرية صغيرة «. وينقل قول شكور خورشيد الذي استند إلى أقوال بعض الباحثين في أن مدينة دهوك كانت تسمى في عهد الآشوريين اديان، لأنها كانت عاصمة لمقاطعة ديمورفي الآشورية والتي كانت قريبة من بيث ذاكان وينسب هذا القول إلى البرفسور فورد. وبما أن دهوك تقع في مدخل ثلاثة مضائق جبلية لذا فإن اتصال الآشوريين مع دولة اورتو كان عن طريق دهوك.
وكحال الكثير من مدن العراق، ترد الكثير من الحكايات الأسطورية حول سبب تسمية المدينة بهذا الاسم، فقد تم تناقل بعض القصص والحكايات الأسطورية حول سبب تسمية دهوك، مثل ما ورد في حكاية قديمة تقول إن طائرًا أسطوريًا ضخم الحجم، غريب الشكل، استهوته المنطقة فحط فيها، وفي المكان الذي أقام فيه الطائر، وعند صخرة كبيرة، وجدت بيضتان ذات حجم هائل، وقد أقيمت دهوك في هذا المكان ولذلك سميت بهذا الاسم والذي يتكون من مقطعين هما (دو) بمعنى اثنين و(هيك) بمعنى بيضة.
بينما يشير المؤرخ والصحافي الكردي أنور مايي معتمدا على مقالٍ للمؤرخ هارتمان نشر في مجلة «العالمين» جاء فيه أن «اسم دهوك في عهد الأمبراطور ماركوس كلاوديوس تاكيتوس كان جاهوك». أما المؤرخ الكردي حسين حزني موكرياني فيقول: «في أوساط القرن الرابع الميلادي كان هناك أمير باسم اخ شندو، يحكم هذه المناطق وكان يقوم بأخذ ضريبة على شكل صاعين أو حفنتين من كل بضاعة تمر في منطقته، لذا فقد سميت المنطقة باسم دهوك، إذ تعني دو هوك بالكردية حفنتين». ويؤكد هارتمان في مقاله آنف الذكر: «إن اخ شندو حكم المنطقة في القرن الثاني الميلادي وتحول اسم المدينة فيما بعد إلى شندوخا وهو الآن أحد أحياء مدينة دهوك».
وبالرغم من أن المؤرخ انور مايي يدعم النظرية التي طرحها هارتمان إلا إنه يعود ويربط اسم المدينة بأصل كردي بمعنى القرية الصغيرة. وحتى المؤرخ واللغوي الكردي توفيق وهبي يؤيد هذا الرأي القائل إن اسم دهوك تشكل بإضافة لاحقة التصغير (وك) إلى (ده) ليصبح معنى دهوك القرية الصغيرة. بينما نجد محمد امين عثمان حيدر يعترض على ذلك ويقول؛ إن اسم دهوك القديم هو نوهه دار، وتعني الموقع الجميل أو الجديد، ويستشهد على ذلك بكتاب «كلدو آثور» ويقول: إن الاسم الحالي دهوك حديث العهد. ويضيف: أن الكلمة لا تعني القرية الصغيرة لأن البهدينانيين يطلقون لفظة كوند على القرية، بعكس السورانيين الذين يطلقون لفظة (ده) عليها. ويضيف: أن كلمة (دوه) هي تسمية لشجيرات (جولي) التي تنمو لتصبح أشجار بلوط وهي منتشرة في أنحاء كردستان، إذ يتم قطعها وتجمع ثم تصنع منها أكداسا تسمى (دوه ـ ده) وتستعمل كعلف للحيوانات في فصل الشتاء وتستعمل أغصانها للتدفئة.

تسمياتها لدى المؤرخين العرب

وقد ورد ذكر مدينة دهوك بعدة تسميات قديمة لدى المؤرخين العرب، إذ يذكر البلاذري في كتابه «فتوح البلدان» ط1 ص 339 في موضوع فتح الموصل: «ولى عمر بن الخطاب عتبة بن فرقد السلمي الموصل سنة عشرين للهجرة فقاتله أهل نينوى فأخذ حصنها وهو الشرقي عنوة وعبر دجلة فصالحه أهل الحصن الآخر على الجزية لمن أراد الجلاء، ووجد بالموصل ديارات فصالحه أهلها على الجزية ثم فتح المرج وقراه وأرض باهذرى وباعذرى وحبتون والحيانة والمعلة وداسير وجميع معاقل الأكراد، وأتى بانعاثا من حزة ففتحها. وأتى تل الشهارجة والسلق الذي يعرف ببني الحر بن صالح بن عبادة الهمداني صاحب رابطة الموصل ففتح ذلك كله وغلب عليه».
ويذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان الجزء الخامس ص 223 مدينة باسم المعلة فيقول: أحد أعمال الموصل. ومعناها المدخل أو الباب مثل كلمة دربند الكردية، وتقع عند مدخل خروج الزاب الكبير من الجبال عند بخمة وباتجاه الجنوب بمحاذاة نهر الزاب الكبير». ولا يستبعد سهيل قاشا، في بحثه «فتح الموصل لدى المؤرخين العرب» المنشور في مجلة «بين النهرين» نيسان1976 ص 205 أن تكون المعلة هي معلتا أو معلثايا الواقعة في باهذرا ـ نوهدرا التي تشكل المدخل المؤدي من سهل نينوى إلى منطقة الجبال وهي مدينة دهوك المعاصرة.
وفيما تلى ذلك من حقب التاريخ الإسلامي وقعت دهوك كسائر مناطق كردستان تحت سيطرة عدة إمارات كردية، ومنها إمارة داسنيا السفلى والتي تأسست عام 916 وقد سميت دهوك باسم هذه الإمارة حيث سميت دهوكا داسنيا، وقد استمر هذا الحكم حتى عام 1236 لتتأسس بعدها إمارة الشيخان، ثم تبعت دهوك لحكم الإمارة البهدينانية والتي تأسست عام 1262 واستمرت حتى 1842. والجدير بالذكر هنا بأنه ولأول مرة يظهر اسم دهوك في كتاب «ديار بكري» للمؤلف أبو بكر الطهراني والذي كتبه عام 1470 باللغة الفارسية. حيث جاء ذكر مدينة دهوك خلال سرد الأحداث التي وقعت في 1446-1447.
بقيت دهوك تابعة لإمارة بهدينان حتى عام 1842 إذ استولت القوات العثمانية على الإمارة فأصبحت دهوك تابعة لها، وتحولت عام 1850 إلى ناحية، وعام 1873 إلى قضاء تابع لسنجق الموصل. وجاء في سالنامة ولاية الموصل (جريدة الوقائع العثمانية) لعام 1901- 1902 أن دهوك كانت قضاءً من الدرجة الثالثة، وكانت لها ناحية واحدة هي ناحية مزوري وكانت ترتبط بها 99 قرية و116 قرية تابعة لناحية مزوري يعني مجموع القرى التابعة لقضاء دهوك كان 215 قرية. وعندما تأسست الدولة العراقية عام 1921 كانت دهوك قضاء وكان عدد قراها نفس العدد المذكور آنفا، وفي عام 1970 تحولت إلى مركز محافظة.

آثار دهوك

يعد كهف جارستين أي الكهف ذو الأربعة أعمدة، واحدًا من أقدم آثار مدينة دهوك، وتشير العديد من الدراسات الآثارية إلى إن هذا الكهف يعد واحدًا من أقدم الكهوف التي عاش فيها الإنسان قبل فجر التاريخ. ويؤكد المؤرخ حسن أحمد أن تاريخ كهف جارستين يعود إلى حقبة ما قبل التاريخ التي تعود لقاها الآثارية إلى حوالي 12000 سنة قبل الميلاد.
ويذكر المؤرخون أن مدينة دهوك تمتعت تاريخيا بأهمية بالغة كونها كانت تشكل ممرا إستراتيجيا للدولة الآشورية. إذ تمر بهذه المدينة أهم الطرق التي تربط الإمبراطورية الآشورية بدول الجوار، إذ كانت تجارة الإمبراطورية وتحركات جيوشها تمر بطرق مثل وادي زاخو، ووادي دهوك، وطريق قشفرى، وطريق زركا، وطريق دركلا شيخا، بالإضافة إلى طرق أخرى تمر بمدينة دهوك. ويقول الآثاريان العراقيان فؤاد سفر وطه باقر في كتابهما «المرشد إلى مواطن الاثار والحضارة» الرحلة الثالثة ص 49؛ «إلى يسار الطريق قبل الوصول إلى دهوك بمسافة قليلة يوجد تل أثري تقوم عليه بقايا قلعة حديثة، ويرجح أن يكون مستوطنة من العهد الآشوري. ويظن بعض الباحثين أن مدينة دهوك الحالية نشأت في موضع المدينة الآشورية: أديان، التي كانت عاصمة المقاطعة رميوسي».
ويضيف الباحثان: «أما منحوتة مله ميركي فتقع في المنحدر الجبلي المعروف باسم مله ميركي من جبل رش في وسط ممر جبلي يعرف باسم دركلي شيخ احمد، ويقابل جبل رش من الجهة الغربية جبل آخر اسمه جارجل، أي الجبل ذو القمم الأربع وعليه بقايا قلاع مشيدة بالحجارة. وتكون هذه المنطقة جزءا من ناحية الدوسكي الواقعة في أقصى الشمال الغربي من قضاء دهوك ويربط الممر المذكور بين قرى منطقة زيناوة وقرى جبال قاشافر، فالممر ذو خطورة استراتيجية عسكرية. أما المنحوتة فقد نقشت في صخرة كبيرة الحجم ارتفاعها نحو ثلاثة أمتار ونصف، إذ سوى سطحها ضمن إطار على شكل شبه منحرف طوله نحو متر ونصف وعرضه نحو متر واحد نحتت في الجهة اليمنى منه داخل الإطار بالنحت البارز صورة شخص واقف يمثل أحد الملوك الآشوريين من القرن السابع قبل الميلاد على ما يظن. وقد نقشت كتابة مسمارية في الجهة اليسرى مكونة من نحو 54 سطرا إلا أنه أصاب هذه المنحوتة كثير من التلف فتشوهت لدرجة استحال معها قراءة الكتابة وتمييز تفاصيل الصورة فيها. ويشاهد الملك في هذه المنحوتة واقفا متجها إلى اليمين مادًا قدمه الأيمن إلى الأمام ورافعا يده اليمنى إلى الأعلى، مشيرًا بسبابته إلى الكتابة المنقوشة أمامه ماسكًا بيده اليسرى صولجانًا.
وهناك العديد من المزارات الأثرية في دهوك، مثل تل باستك وكمون والتي ترجع إلى تاريخ الدولة الميتانية الكردية، بالإضافة إلى تل مالتا وكهف هلامتا في شندوخا الواقعة جنوب المدينة والتي ترجع في تاريخها إلى زمن الآشوريين والميديين. ويزخر متحف دهوك اليوم بلقى أثرية من مختلف حقب التاريخ التي مرت على المدينة، وبات هذا المتحف يجذب العديد من السياح المهتمين بآثار المنطقة.

تعايش الكرد والعرب

تعايش تاريخيًا في مدينة دهوك خليط من السكان الكرد والعرب، ممن يدينون بمختلف الأديان، إذ عاش فيها المسلمون منذ الفتح العربي الإسلامي للمنطقة، وكذلك الإيزيديون منذ فترات موغلة في القدم، كما وجدت فيها المسيحية منذ قرونها الأولى، ولكنيسة المشرق الأرثوذوكسية تاريخ حافل في المدينة. وكذلك وجدت اليهودية في المدينة منذ السبي الآشوري لليهود. ويذكر محفوظ العباسي طوائف ورؤساء اليهود في بهدينان في كتابه «إمارة بهدينان العباسية» ص209 فيقول: «بالرغم من إن اليهود فى بهدينان لم يبق لهم ذكر بعد هجرتهم الأخيرة، ولكن لابد لي من كلمة أقولها فيهم طالما عاشوا في هذه المنطقة مدة طويلة، وذلك منذ أن غزا شلمنصر ملك آشور مدينة القدس سنة 730 ق.م وأتى بالسبايا اليهود إلى نينوى، فسكن القسم الأكبر منهم في بهدينان. وفي أواسط القرن السادس للهجرة كان من بقاياهم في بهدينان خمسة وعشرون ألف يهودي، يتكلمون الكردية والعبرانية لغة الترجوم ويدفعون الجزية للمسلمين شأن سائر اليهود المقيمين في الديار الإسلامية. وكانوا منتشرين في العمادية والعقر ودهوك وزاخو والزيبار وبرواري العليا والسفلى والمزوري والدوسكي».
ويسلط العباسي الضوء على الوجود اليهودي في المنطقة بقوله: «كانت لهم قريتان وهما صندور في دهوك، وبيت النور، بيطة نور في برواري العليا، وكثير منهم في قرية براش. ويندر وجودهم في القرى المسيحية، حيث لا يجدون فيها من يحميهم. ويمتهنون الفلاحة وغرس الأشجار، ومنهم من يشتغل بالصياغة والتجارة والصباغة والحياكة، وكان لهم عدد قليل من الكنس، منها كنيسان في العمادية فوق القلعة نفسها، وكنيس ثالث في قرية صندور، ورابع في بيت النور. ولهم مزار يدعى ابن حزان، داود بن يوسف بن افرايم، المتوفى حوالي سنة 1030هـ – 1620م وبجانبه ضريح زوجته الست نجاد قرب الكنيس اليهودي في العمادية ويدعون إنه من أوليائهم ويقصدونه في الملمات. وكان البهدينانيون قد عاملوهم أنبل معاملة، وأحسنوا إليهم وحافظوا عليهم، شأنهم شأن كافة المسلمين تجاه اليهود في العالم الإسلامي. وهذا بنيامين التطيلى الرحالة الراباي اليهودي الأندلسي الذي زار العراق في القرن الثاني عشر الميلادي، يشهد بذلك قبل حوالي ثمانية قرون، وقد أجاد كل الإجادة في التعريف، فهو يلهج بالثناء على ما شاهده في بلاد المسلمين عامة والعراق خاصة من تسامح تجاه أبناء قومه، إذا ما قارن أوضاعهم في الشرق، بما كانوا عليه يومئذ في أوروبا من ضيق واضطهاد. وفي سنة 1369هـ – 1949م كان عدد اليهود في بهدينان حوالي ثلاثة عشر ألف نسمة، أسقطوا جنسياتهم وهاجروا إلى فلسطين».

مقتل المبشر الأمريكي كامبرلاند

روجر كـريغ كامبرلاند (1894- 1938)أو كمبرلان كما يسميه أهالي دهوك، مبشر أمريكي عاش قرابة عقد ونصف في كردستان العراق وكانت حادثة مقتله علي يد سليم مصطفى البيسفكي في 12 حزيران/يونيو 1938 خبرا غريبا هز مدينة دهوك، إذ لم يكن كامبرلاند أول ولا آخر مبشر غربي يصل كردستان ويستقر ويعمل فيها. ولم يعرف عن الكرد أنهم قاموا بقتل أي مبشر مسيحي لأسباب دينية، علماً أن وجود المبشرين في كردستان يعود إلى مطلع القرن السابع عشر الميلادي، ومهمتهم كانت تتمثل في نشر تعاليم الكنيسة الغربية بين المسيحيين في المنطقة فضلاً عن دوافع أخرى تداخلت مع التبشير، أو ربما تسترت به. ويذكر الدكتور عبد الفتاح علي البوتاني في مقال نشره في عام 2004؛ أن «التنظيمات العثمانية (خط شريف كل خانه سنة 1839 وخط شريف همايون سنة 1856) قد مهدت الطريق للإرساليات التبشيرية للوصول إلى الولايات العثمانية لاسيما بعد أن ضمنت الحرية والحماية لها، حتى صار بامكانها إنشاء المؤسسات والمعاهد الدينية في أنحاء الدولة العثمانية. أما منطقة بهدينان، فقد تعرفت على المبشرين الأجانب منذ وقت مبكر أيضاً. فقد كان لإرسالية الآباء الدومنيكان في مطلع سنة 1750 مركزًا صغيرًا في العمادية عاصمة إمارة بهدينان الكردية».
استقر كامبرلاند في دهوك سنة 1923 ضمن حملة تبشيرية تابعة للكنيسة المشيخية البروتستانتية الأمريكية التي بدأت تعمل في العراق منذ أوائل القرن السادس عشر، وبعد أن توقفت مدة عن العمل عادت لبناء إرساليتها، وأصبح لها خمسة مراكز إرسالية في العراق، واحدة منها في مدينة دهوك. أخذ كامبرلاند يتجول في قرى المنطقة، ويسجل ملاحظاته ومشاهداته، ويجالس الناس البسطاء ويتناول طعامهم وينام في بيوتهم ويتحدث معهم بالكردية التي اتقنها بسرعة، ولم يذكر معظم الذين تحدث اليهم كامبرلاند ورافقوه أنه فاتحهم باعتناق المسيحية، ويبدو إن اهتمامه الأكبر كان منصبا على التبشير بين الآثوريين من أتباع كنيسة المشرق النسطورية ومحاولة تحويلهم إلى البروتستانتية. يقول رياض السندي في مقال توثيقي عن ملابسات مقتل المبشر كامبرلاند؛ «لقد خطط روجر كامبرلاند لبيان الأسلوب المسيحي في الحياة عبر تجربة الزراعة في الإقليم. فقد شاهد منافع الزراعة العلمية في موطنه كاليفورنيا. وقد حلم في أن يبرهن أن السكان المحليين يستطيعون الاستفادة منها بشكل مماثل. وفي عام 1925 نجح كامبرلاند في شراء قرية بابلو الواقعة في الجبال على بعد نحو عشرة أميال شرق دهوك». ويعود تاريخ قرية بابلو إلى عام 1914 عندما قدمت 40 عائلة آثورية مهاجرة من منطقة باز في تركيا، وسكنت القرية بعد أن كان يسكنها اثنان من المهربين هما الأخوين شيرو وبيرو. بعد فترة وجيزة ضاقت القرية بالأخوين فتركاها إلى جهة مجهولة، ثم اشتراها محمد عبدالرحمن ايتوتي واتفق مع أهالي القرية على استغلالها مقابل حصة من الحاصل حتى عام 1925 حيث باعها إلى كامبرلاند بمبلغ 400 ليرة تركية.
بعد سنتين تزوج كامبرلاند من أمرأة أمريكية وجلبها للعيش معه في دهوك عام 1927 حيث بنى بيتا فخما على هامش قريته، وعاش ليقدم مختلف الخدمات للمجتمع المحلي مثل التعليم والصحة على طريقة البعثات التبشيرية، ومما يذكر من خدماته أنه أنشأ مشروعا لنقل المياه من عين مرتفعة قرب المدينة، وذلك عبر مد الأنابيب لمسافة تزيد على ميلين إلى المدينة، وبذلك خلص المدينة من نقل المياه وشربها من النهر الملوث.
ويبدو أن الأزمة الآثورية التي اشتعلت نيرانها في منتصف ثلاثينات القرن الماضي قد طالت المبشر كامبرلاند، إذ حرض قائممقام دهوك محمد مكي صدقي الشربتي وهو من أهالي الموصل على قتل المبشر بتهمة ملفقة مفادها إنه يحول الأكراد المسلمين إلى المسيحية. وقد اتفق مع سليم مصطفى البيسفكي على تنفيذ الاغتيال، ويبدو أن علاقة ود وزاد وملح، كانت تربط بين البيسفكي وكامبرلاند الذي تعود على استقباله في بيته، لكن البيسفكي في زيارته الأخيرة استغل انشغال كامبرلاند وأطلق عليه الرصاص من الخلف وهرب. وعندما حاولت زوجة كامبرلاند إنقاذ زوجها ونقله بسيارتهما إلى مستشفى الموصل مات في الطريق. هرب البيسفكي لعدة سنوات ويقال انه كان مختبئا في مضارب شمر في سوريا حتى أصدرت الحكومة العراقية عفوا عنه بتوسط من محمود آغا الزيباري نتيجة قتاله مع الزيبار الذين قاتلوا مع الجيش الحكومي في التصدي لانتفاضة بارزان التي اندلعت في آب/اغسطس 1945.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية