هذه أول مرة أتذكر أنه يمكن أن أكتب مقالا عن يوم مولدي. عادة يمر هذا اليوم في حياتي دون احتفال. صغيرا كان أبي وأمي يكتفيان بتهنئتي «كل سنة وانت طيب يا حبيبي» ويعطيني أبي مبلغا بسيطا لأذهب إلى السينما التي أعشقها. وكانت أمي تطهو طعاما جيدا نتعشى به جميعا، وتمنحني أجمل قطعة من اللحم أو الدجاجة أو البطة التي تطهوها.
أتذكر أسمي وكيف كانت وراءه حكاية خيالية، حيث سبق ومات أخوين وُلدا قبلي. أتيت أنا وكان مولدي في الثاني من ديسمبر/كانون الأول، حيث الشتاء حقيقي في الإسكندرية، قبل التغير الذي جرى في البيئة فأفسد طبيعتها، وصار الشتاء أياما نادرة. أشعل أبي ثلاث شمعات، ومنح كل شمعة إسما من أسماء أولياء الله، تيمنا بالعيش لي، وألا يحدث ما حدث مع من وُلدا قبلي. شمعة باسم مرسي تيمنا بسيدي المرسي أبو العباس، وشمعة باسم سيد تيمنا بالسيد البدوي، وشمعة باسم إبراهيم تيمنا بسيدي إبراهيم الدسوقي. وضعها قرب النافذة وقال لأمي سنسميه باسم الشمعة التي لا يطفئها الهواء. انطفأت شمعة مرسي وسيد وبقيت شمعة إبراهيم فجاء إسمي.
لكني يوما سمعت فريد الأطرش يغني أغنيته «عدت يا يوم مولدي.. عدت يا أيها الشقي» ولا أدرى لماذا صارت تقفز الأغنية أمامي كل عام، رغم حرصي على أن أنفضها عن ذهني. هناك أغنيات مبهجة عن عيد الميلاد مثل «عقبالك يوم ميلادك لما تنول اللي شغل بالك» لعبد الحليم حافظ، أو «يا نور جديد في يوم سعيد، دا عيد ميلادك أحلى عيد» لمحمد فوزي وشادية، وغيرها من الأغاني الجميلة لمطربين معاصرين لا تتوقف عن عيد الميلاد.
لم أكن من المغرمين بفريد الأطرش، بما يقارن بغرامي مثلا بعبد الحليم حافظ، أو أم كلثوم، لأن في صوته الأجش نبرة حزن، فضلا عن كثير من كلمات أغنياته المؤلمة، رغم أن له أغنيات مبهجة كثيرة مثل «ما قال لي وقلت له.. ياعوازل فلفلوا»، أو «بساط الريح»، أو «جميل جمال»، أو غيرها. ورغم قيمته وقامته الموسيقية العظيمة. كان غرامي بفريد الأطرش مرتبطا بالأفلام التي أراها له ومعه سامية جمال، وطبعا مع أخريات مثل شادية أو فاتن حمامة إلى صباح ومرفت أمين. لكن سامية جمال أكثر من غيرها، كان رقصها مع صوت فريد، يأخذني إلى السماء. على عكس عبد الحليم حافظ الذي كنت ارتفع معه إلى السماء، بصرف النظر عمن تشاركه في الفيلم. زاد ابتعادي عن فريد الأطرش مع حادثة عارضة جرت معي عام 1972 تقريبا، حين كنت راكبا في الأوتوبيس، وكانت المواصلات مزدحمة جدا ذلك الوقت، وفي جيبي ورقة بعشرة جنيهات هي كل ما أملك. كان في الأوتوبيس رجل صعيدي معه راديو ترانزستور يأتي منه صوت فريد يغني أغنية «نجوم الليل». كنت مختلفا مع والدي الذي كان يراني كثير البيات في الخارج، ولا يعرف مكان بياتي، وكانت هذه المرة الوحيدة التي اختلف معي فيها في حياتي. كان ذلك أيام الدراسة الجامعية، حيث كانت لي حياة رائعة مع زملائي الأغراب عن المدينة، في شارع تانيس القريب من كلية الآداب، والتي صارت مادة روايتي «الإسكندرية في غيمة» في ما بعد. لم أكن أخبرهم أين أمضي الليل، لأن شارع تانيس كان سيئ السمعة، فأمامه كورنيش الإسكندرية الحافل بالملاهي الليلية وقتها، وكانت سمعة الشارع تتلخص في مقولة «عايز تهيص روح شارع تانيس» طبعا أضحك وأنا أتذكر ذلك، لأني في يوم ما في التسعينيات، مشيت في الشارع نفسه لأشتري علبة سجائر، فوجدت كل المحلات تقول لي السجائر حرام! المهم ذلك اليوم شرد ذهني مع الكلمات الأخيرة للأغنية التي يقول فيها فريد:
العمر قضيته .. حزين مظلوم
أخلص من هم .. ألاقي هموم
على دمعي أنام.. على دمعي أقوم
وأقول ده نصيب .. وقدر مقسوم
يا ربي إيه العمل .. دي حكمتك
يائس ومالي أمل .. غير رحمتك يارب..
ورغم أن ذلك لم يحدث في حياتي إلا فيما بعد، حين مرضت زوجتى الأولى بالسرطان ثم وفاتها، إلا أن شرودي كان عميقا، فتمت سرقة العشر جنيهات من جيبي ولم أشعر. زاد ابتعادي عن فريد الأطرش، لكن في كل موعد لميلادي أتذكر أغنيته «عدت يا يوم مولدي .. عدت يا أيها الشقي». هي أغنية مؤلمة رغم أن لها أفقا فلسفيا لا يغيب عني، ورغم ذلك فكما قلت انفضهاعن ذهني بسرعة. تذكرتها كالعادة هذا العام لكني خففت على نفسي ضاحكا كالعادة، وتذكرت السؤال المصري الشعبي في عيد الميلاد وهو «ليه يابابا قبل موعد ولادتي بتسعة أشهر ما راحتش عليك نومة»، هو سؤال أيضا له جانبه الفلسفي، فلا أحد منا يأتي إلى الدنيا بإرادته، وكذلك لا يخرج منها بإرادته. سؤال أحبه لمعناه ولخفة دم المصريين فيه.
في كل الأحوال تتداعى أمامي رحلة الحياة، وكيف أنا راضٍ عما أنجزت من إبداع، رغم المتاعب. المتاعب أمر طبيعي جدا مع من تتلبسه روح الإبداع، فهو باحث دائما عما هو أجمل. البحث عن الجمال في عالمنا العربي لا يمر دون منغصات، أقلها غيرة البعض من بني مهنتك أو صنعتك، وأبرزها اضطهاد الأجهزة السياسية، التي لا ترى معنى في ما يمكن أن يوجهه أيْ كاتب لما حوله من نقد. لكن بعيدا عن حال الوطن أتذكر طفولتي، وكيف كانت الحياة أكثر أمنا وأمانا. كيف كانت المدارس متسعة لكل الأنشطة الثقافية والرياضية. كيف كانت السينمات في كل الأحياء الشعبية، فكنا نذهب إليها تقريبا كل يوم أو يومين ولا يعترض أهلنا. وعدد سكان الإسكندرية قليل، فالشوارع خالية نلعب الكرة بالليل على أضوائها. هذا لم يعد يتوفر للأطفال الآن، وصارت الحياة تتسع فقط لهم، مع النظر في الهاتف النقال، وممارسة الألعاب الإلكترونية عليه، وهو أمر مهما كان جميلا، فهو ليس أجمل من الفضاء الحقيقي، في الشوارع أو الحدائق أو الشواطئ، التي صار دخولها لمن يدفع رسوم دخول، رغم أن الماء والهواء من حق كل الناس. كان الفضاء خارج البيت هو حياتنا، فضلا عن جمال المدارس. وفي الفضاء قابلت غرباء وأصحاب حكايات أسطورية جاء منها عشقي لكتابة القصة.
مشكلة المبدعين أنهم دائما أكثر الناس شبابا، رغم ما يحدث من حولهم من تدهور في أحوال البلاد، ورغم ما يقاسونه. الإبداع لا يرتبط بالعمر، وعشت مقتنعا بضرورة أن يكون ما أكتبه جديدا في شكله وموضوعه. لا يخرج المبدع من هذه الحالة إلا إذا دخل في اكتئاب، وأسلم نفسه لما حوله. هنا قد يكون الاكتئاب طريقا إلى الانتحار، وما أكثر من انتحروا من الكتاب والفنانين، أو ماتوا قهرا. هناك طرق كثيرة للخروج من شرنقة الحياة، منها بالنسبة لي الموسيقى الكلاسيكية التي رافقتني طوال رحلتي. فضلا عن المساهمات الاجتماعية والثقافية التي صارت قليلة بالنسبة لي بسبب الصحة والعمر، وبُعد سكني عن منتصف القاهرة، لكني ائتنس بالموسيقى ومشاهدة قنوات أفلام قديمة وجديدة. والأهم من ذلك كله هو الاستغناء. صارت متعة الكتابة أعظم ما خصني به الله، وصرت حريصا عليها. آمنت مبكرا بأن النهايات للحياة ليست بيدي، وعليّ ألا أنشغل بها وأتركها للقدر. ربما لذلك لم أنشغل بالاحتفال بيوم مولدي. حتى بعد أن تزوجت كنت حريصا أكثر على الاحتفال بمولد أبنائي أو زوجتي، وقليلا ما استجبت للاحتفال بيوم مولدي. ليس بسبب أغنية فريد الأطرش التي تقفز إلى ذاكرتي فأنفضها بسرعة، لكن بسبب أن ذلك لم يكن بيدي، واكتفي بالضحك وأنا أتذكر السؤال الشعبي « ليه يابابا قبل ميلادي بتسع شهور ماراحتش عليك نومة» ثم أنسى ما حولي وألوذ بالإبداع.
كاتب مصري