من عجائب الديمقراطيات أنها لا تقي شعوبها خطرَ القرارات الفردية. زجت بريطانيا بنفسها في كارثة الحرب على العراق بقرار رجل واحد، ثم افتعلت مصيبة الاستفتاء على البركسيت بقرار رجل واحد. وما الأزمة التي تتخبط فيها فرنسا اليوم إلا بجريرة رجل واحد. غامر الرئيس ماكرون، بلا مبرر، فخسر. ولكنه لا يزال يعاند ويكابر، عاجزا عن استخلاص ما توجبه الخسارة من عبر واتخاذ ما تفرضه من قرارات مخالفة للهوى.
وكان الرئيس شيراك قد غامر هو أيضا، عام 1997، بحل البرلمان. كان متخوفا من انهزام حزبه في الانتخابات البرلمانية والمحلية المقررة لعام 1998. ولأن تخوفه كان مبررا، في أعقاب مظاهرات 1995 و1996 الشعبية العارمة التي أجبرت حكومة ألان جوبي على التراجع عن مشروع إصلاح نظام التقاعد، فقد أشار عليه دومينيك دوفيلبان بحل البرلمان أملا في نيل أغلبية أوسع واكتساب شرعية جديدة. فكان أن أقدم الرئيس على المغامرة ولكنه خسر، لأن تحالف «اليسار التعددي» فاز بالأغلبية، فاضطر شيراك إلى تكليف الاشتراكي ليونال جوسبان بتشكيل الحكومة وإلى تحمل «مساكنة» استمرت خمس سنوات كاملة. كانت مغامرة حجّمت دور الرئيس، وأتاحت لجوسبان انتهاج سياسات اجتماعية أكسبته وحكومته شعبية ومصداقية. ولهذا أقدم على منافسة شيراك في رئاسيات 2002، ولو أنه حدث في الجولة الأولى ما لم يكن في الحسبان لما أتى زعيم اليمين المتطرف جان-ماري لوبان ثانيا فاستطاع الترشح للجولة الأخيرة.
ولكن رغم أن مغامرة 1997 لم تكن في صالح شيراك، فإنها لم تُخلّ بتوازن المؤسسات ولم تمس بمصالح البلاد. أما المغامرة التي أقدم عليها الرئيس ماكرون بحل البرلمان في يونيو الماضي فقد أدخلت فرنسا في دوامة خطيرة لا سابق لها في تاريخ الجمهورية الخامسة. حيث أسفرت الانتخابات عن برلمان فسيفسائي ليس فيه أكثرية معتبرة لأي حزب، باستثناء حزب اليمين المتطرف الذي منحه ماكرون الفرصة التي كان يحلم بها، فإذا به يصير هو حَكَم اللعبة السياسية يعطل القرارات ويسقط الحكومات.
الأزمة التي تتخبط فيها فرنسا اليوم كانت بجريرة رجل واحد. غامر الرئيس ماكرون، بلا مبرر، فخسر
وقد راجت صورة صادمة، بل مُهينة، تلخص الموقف بوضوح أثناء جلسة التصويت على سحب الثقة من حكومة ميشال بارنيي: حيث باغتت الكاميرات زعيمة اليمين المتطرف، المدانة بتهم الفساد المالي، مارين لوبان وهي تشير بإبهامها إلى الأسفل، على طريقة القياصرة والأرستقراطيين الرومان الذين كانوا يجلسون أمام حلبات المُجالَدة والمصارعة في الكوليزيوم ثم يقررون بحركة الإبهام ما إن كانوا يريدون من المنتصر الإجهاز على المنهزم.
ومما زاد طين انعدام الأغلبية البرلمانية بلة أن ماكرون تعمد عدم احترام حكم صناديق الاقتراع. إذ رغم أن تحالف أحزاب اليسار حصل على النسبة الأعلى من الأصوات، فإن ماكرون مضى يتصرف كأن اليمين هو الذي فاز. ذلك أن ماكرون يميني الهوى والمصالح رغم أنه أطنب، بعد غدره بالرئيس فرانسوا أولاند عام 2017، في التنظير لانتهاء ثنائية اليمين واليسار. صحيح أن الحرب الأهلية المزمنة بين أحزاب اليسار، المتحالفة شكليا في «الجبهة الشعبية الجديدة» هي التي حالت دون تكليف الاشتراكي برنار كازنوف (الذي تولى رئاسة الحكومة في عهد أولاند من 2016 إلى 2017) بتشكيل الحكومة الجديدة، ولكن الصحيح أيضا أن ماكرون رفض مجرد النظر في إمكان تكليف مرشحة حزب «فرنسا الأبية» اليساري السيدة لوسي كاستي.
وفي آخر الأمر قرر الرئيس تكليف ميشال بارنيي، السياسي المخضرم المنتمي لليمين الديغولي، مع أن حزبه أحرز عددا ضئيلا من المقاعد. على أن بارنيي جنتلمان محترم ليس له أي طموح شخصي، وإنما أتى ملبيا نداء الواجب، عازما على تحمل مشقة المهمة المتمثلة في بدء معالجة المشكلات الخطيرة التي تنوء بثقلها المالية العمومية، وذلك بانتهاج سياسة حازمة لا مجال فيها للمسكّنات والترضيات المعتادة التي أدت إلى تراكم جبال الديون وتصلب شرايين نظام الرعاية الاجتماعية وإزمان العجز الفرنسي عن التطور والتأقلم مع التغيرات العالمية المتسارعة.
إلا أن حقيقة الأمر أنه لم يعد في زمن التفاهة هذا متسع لأمثال بارنيي. فالرجل سليل مدرسة سياسية قديمة تلتزم أصول الكفاءة والجد والتشاور والحلول الوسط، مع تجنب الأضواء والحرص على مصارحة الجمهور بالحقائق المرة بدل دغدغة مشاعره بالدجل المعسول وبأنصاف الحلول. لهذا صارت حكومته أقصر الحكومات عمرا في تاريخ الجمهورية الخامسة، تماما كما كانت حكومة السياسي الشريف بيار منداس فرانس الأقصر عمرا في الجمهورية الرابعة.
كاتب تونسي