ينطلق البناء الحضاري لأي أمة – في مقامه الأساسي- من قدرة المجتمع، على إنشاء لغة جماعية، كشرط أولي للعمل الجماعي، إذ القدرة على الاتصال بين الفاعلين الاجتماعيين أكثر أولوية وأهمية للفعل الحضاري من عمل الآلات، بيد أن بنية اللغة الجماعية بوصفها مدخلا للوعي الحضاري؛ تقوم في أصلها على خلفية التنوع والتعدد، بما يعني استمرارية التواصل الاجتماعي المحلي، وتيسير أسبابه بلغات محلية مختلفة، مع انفتاح على اللغة المشتركة، وبذلك ينمحّي الصراع اللغوي، الذي يحمل هيمنة من جهة لغة عليا يتم فرضها قسرا، ولغة محلية يتم احتقارها ونفيها غصبا، فلا بد أن تكون اللغات المحلية مساهمة علميا وفنيا في مجرى اللغة الحضارية المشتركة، وهي النقطة التي يركّز عليها غوستاف لوبون، في حديثه عن سياسة العرب الفاتحين، فيؤكد أن الغزاة السابقين للأمم لم يستطيعوا فرض لغتهم على الأمم المغلوبة (مثل العراق وفارس ومصر)، واستطاع العرب فعل ذلك، حتى صارت اللغة العربية عامة في جميع البلدان التي استولوا عليها، وحلّت محل السريانية واليونانية والقبطية والبربرية، إلخ، وكان للغة العرب ذلك الحظ زمنا طويلا، حتى في بلاد فارس، على الرغم من يقظة الفرس، ولكن ظلت العربية لغة أهل الأدب والعلم، وكتبَ الفرس لغتهم بأحرف عربية، وكُتب ما عرفته بلاد فارس من علم الكلام وعلوم أخرى بلغة العرب.
وللغة العربية في هذا الجزء من آسيا شأنٌ كالذي كان للغة اللاتينية في القرون الوسطى، وانتحل الترك أنفسهم وهم الذين قهروا العرب؛ الخط العربي، ولا تجد في تركيا إنسانا على شيء من التعليم، لا يستطيع أن يفهم لغة القرآن بسهولة، فقد كُتبت التركية بأحرف عربية، وصيغت مؤلفات علمائها بالعربية.
شهادة غوستاف لوبون فيها إشادة، وسوء فهم، أما الإشادة فهي إقراره بأن العربية انتشرت مع الفتوحات العربية، وصارت لغة الثقافة والتعلم والحضارة، وقبلت بها شعوب ذات حضارات راسخة. أما سوء الفهم، فهو إصراره على تجاهل أثر الإسلام الديني والثقافي والحضاري، والنظر إلى القضية في إطار هيمنة العرب – بوصفهم جنسا – على شعوب وأعراق أخرى، وهو ما يفسر تعجبه من قبول الفرس ذوي الحضارة الراسخة للغة العربية كتابة وتأليفا، وقبول الأتراك وقد حكموا شعوبا مسلمة بمن فيهم العرب، بالحرف العربي لكتابة لغتهم، وبالعربية كلغة العلم والاطلاع. القضية ببساطة أن الإسلام كان مظلة شاملة لأمم وأعراق وثقافات، ارتضت به دينا وبالعربية لغةً. كما أن لوبون يعبر عن اندهاشه من ثراء اللغة العربية، واستفادتها من اللهجات التي اتصلت بها، فهي رحبة، تقبل التعابير الجديدة، والدليل على ذلك معجم ابن سيده (ت 1065)، المشتمل على عشرين مجلدا. فالعربية مرنة في الاشتقاق والتعريب، وقبول دخول بعض الألفاظ الأعجمية، وأيضا انفتحت على اللهجات التي انبثقت منها، وما أحدثته من تعبيرات وألفاظ جديدة، بحكم تفاعل الشعوب مع التطور الحضاري، واختلاف البيئات، وتنوع الثقافات.
لقد كان تمدد العربية عالميا مثيرا ومدهشا، وكما يقول المستشرق رينان: «إن انتشار اللغة العربية؛ يعتبر من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، كما يعتبر من أصعب الأمور التي استعصى حلها، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدت فجأة على غاية من الكمال، فليس لها طفولة أو شيخوخة؛ ظهرت أول أمرها تامة مستحكمة، ولا أدري هل وقع ذلك للغة من لغات الأرض، قبل أن تدخل في أدوار مختلفة، فإن العربية بلا جدال قد عمّت أجزاء كبرى من العالم». إن هذا التأثير متوقع، وقائم، ولا يقتصر على الحضارة الإسلامية ولا القرون الوسطى، بل هو قائم إلى عصرنا، ويكفي أن نرى حياتنا المعاصرة، وما ننطقه على ألسنتنا، فسنجد مئات الألفاظ من اللغات الأوروبية، ناهيك عن الاختراعات والأجهزة، ومصطلحات العلوم والفنون، فتأثير الحضارات قائم وحادث، بل هو من لوازم الحياة الإنسانية، بأن تغزو الحضارةُ القوية الشعوب الأقل والأضعف ثقافيا وعلميا، ولكن الفارق أن الحضارة الغربية لم تعرف إلا الهيمنة والتسلط ونهب الموارد واستعباد الشعوب، بدعوى نشر حضارتها، التي كانت في حقيقتها احتلالا عسكريا، وقهرا سياسيا، وإبادة عنصرية، أما الحضارة الإسلامية، ففي اتصالها مع الحضارات الأخرى، لم تعرف هذا القيم، وإنما نشرت قيما سامية، على نحو ما يسهب سعيد عاشور مستشهدا بمقولة المستشرق جيوم الذي يقول: «سوف نرى عندما تخرج إلى النور الكنوز المودعة في دور الكتب الأوروبية؛ أن تأثير العرب الخالد في العصور الوسطى؛ كان أجلّ شأنا، وأكبر خطرا مما عرفناه حتى اليوم». والمعروف أن المثل العليا للتربية الأخلاقية عند العرب، هي الشجاعة والصبر ومراعاة الجوار والمروءة، والكرم وحسن الضيافة، ومساعدة الناس والأرامل والوفاء بالعهود.
إن سبب انتشار اللغة العربية في أنحاء العالم، في القرون الوسطى، يعود إلى سيادة النموذج الحضاري الإسلامي، وهي سيادة لم تتأتَ بسبب احتلال عسكري، أو قهر سياسي، أو هيمنة وتبعية، وإنما لما تميّزت به الحضارة الإسلامية من سمو أخلاقي، ورفعة قيمية، واختزنتها شعوب الأقاليم المفتوحة في ذاكرتها الجمعية، وهم يقارنون بينهم وبين أحوالهم تحت حكم كسرى في فارس، أو قيصر في الروم، أو ملوك أوروبا وإقطاعييها. وقد جاء انتشار العربية بالنظر إلى كونها لغة الحضارة الإسلامية الأساسية، علما بأن هناك لغات أخرى، ضمن إطار الحضارة الإسلامية، كُتِبت بأحرف عربية، وكانت رديفة للفصحى، بعدما امتاحت منها كثيرا من المفردات والمصطلحات، مثل الفارسية والتركية. وقد تمثلت الأدوار الحضارية للعربية الفصحى في كونها لغة العلوم والفنون والآداب، ثم هي اللغة التي حملت أبرز الكتب المترجمة عن الحضارات السابقة، وتضافر علماء المسلمين على شرح هذه الكتب، مثل شروح مؤلفات أرسطو، ثم هي اللغة التي كانت جسرا حضاريا لحضارة أوروبا.
ومن هنا نشدد على أهمية النظر في السياقات الحضارية والتاريخية للغة العربية، ونحن نروم البحث في النهوض اللغوي للعربية، فلا يمكن فهم تطور لغتنا ثقافيا وحضاريا، إلا بفهم مجمل السياقات الزمنية والتثاقفية والحضارية التي صاحبتها، وهذا لا يعني إهمالنا النظر الجزئي، والدراسات الفرعية، وإنما المستهدف تقديم رؤية إجمالية، تأخذ أبعادا سياسية ودينية وثقافية واجتماعية، جنبا إلى جنب مع الموقع الجغرافي للعالم الإسلامي، الذي مكّنه من الاطلاع ثم حفظ علوم الحضارات السابقة، ثم البناء عليها، وبعد ذلك نقلها إلى حضارات الأرض المعاصرة له تاريخيا، أو اللاحقة عليه زمنيا، لتستمر مسيرة الحضارة الإنسانية، عبر نقل مشاعلها بين الأمم.
كاتب مصري