مثلما يحدث مع الزلازل، الجميع يعرف بأن منطقة معينة يضرب فيها الزلزال يوما، ولكن لا أحد يعرف بالتأكيد التاريخ المحدد لوقوعه، هو ما يحدث في العالم العربي من تطورات وهزات جيوسياسية عميقة، أبرزها ما يجري في سوريا بانهيار النظام الجمهوري – الملكي لعائلة الأسد وزبانيته يومي 7 و8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 وقد تكون أنظمة أخرى مرشحة. ولعل التساؤل الذي يتردد الآن هو هل ما يجري حلقة من حلقات الربيع العربي؟
وهكذا، يعتبر العالم العربي منطقة زلازل حقيقية، تسجل زلزالا تلو الآخر بشكل مفاجئ، يعلم الجميع بوقوعها، لكن لا يتم اتخاذ البناء المناسب للتخفيف من تأثيراتها، التي قد تكون خطيرة عندما تضرب. وإذا كانت الزلازل الطبيعية تقع بسبب تحرك الصفائح التكتونية، واهتزاز سريع ومفاجئ للأرض ناتج عن تعاظم الضغط الناشئ عن إزاحة في الطبقات الصخرية تحت سطح الأرض، فهذا تعادله في العالم العربي سياسيا، صفائح تكتونية من نوع آخر. نتحدث عن وجود عناصر تفجر الوضع مثل الفقر وخروقات حقوق الإنسان وسرقة ونهب أموال الشعب وتهريبها إلى الخارج وجعل أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والقضائية والعسكرية والاستخباراتية في خدمة الفرد ومجموعة الفاسدين، التي تدور في فلكه وتحتكر شعارات الوطنية وتتفنن في الحديث عن العدو الخارجي والداخلي، بينما هي تشكل أكبر عدو للوطن والشعب. وقد أظهرت تجارب إسقاط طغاة من نوع المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي نموذجا حيا في هذا الشأن، وها هو بشار الأسد ينضاف إلى اللائحة، وهي اللائحة التي ما زالت مفتوحة.
مفهوم الربيع العربي أوسع وأشمل وأصبح يعني «العيش في ظل الكرامة والحرية» وعلى الحكام التعلم من التجارب السياسية حتى لا يكون مصيرهم مثل بشار الأسد وحسني مبارك والقذافي..
كثيرة هي التساؤلات المطروحة حاليا ومنها، نوعية التكتيك العسكري العالي للمعارضة، أو الجماعات المسلحة وهو نسخة من التكتيك التركي، الأمر الذي يؤكد كيف تدرب هؤلاء في الكليات العسكرية التركية، ثم مناورات روسيا للحفاظ على قواعدها العسكرية طرطوس البحرية وحميميم الجوية، ثم مآل التعاون العسكري مع إيران، على الرغم من الاختلافات المذهبية الدينية، وكيف سيكون موقف المسلحين الجدد من حرب قطاع غزة. غير أن التساؤل المركزي الآن هو هل يمكن اعتبار ما يجري في سوريا هو حلقة من حلقات الربيع العربي في صيغة جديدة ومغايرة. حتى الآن يتم التعامل مع هذا التساؤل بنوع من الريبة والشك والتوجس، تتساءل الأنظمة العربية هل هي موجة من التغيير مقبلة، وبدورها تنتظر الشعوب بدهشة لما يقع في سوريا وهل سينتقل إلى دول أخرى.
في البدء ورغم شتى التأويلات، تعتبر الجماعات المسلحة بقيادة الجولاني بشكل أو آخر امتدادا للانتفاضات التي شهدتها سوريا في إطار الربيع العربي، الذي انفجر نهاية 2010 وبداية 2011، ولا تعتبر امتدادا لانتفاضة أخرى، أو عامل آخر مثل حرب العراق، على الرغم من العوامل الجديدة التي طرأت ومنها الخارجية، حيث تبقى النواة هي نتاج الربيع العربي، هي نتاج سنوات طويلة جدا من القتل والاغتيال والقهر.. هذا يبرز بعض الأطروحات وكنت من المدافعين عنها في هذا الركن منذ سنوات وفي كتابي «انتفاضة الكرامة في العالم العربي» الصادر باللغة الإسبانية عام 2012، بالتأكيد أنه يجب رؤية الربيع العربي مثل مسلسل ممتد في التاريخ على شاكلة النهضة الأوروبية، أو إقامة الدول الأوروبية للديمقراطية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إذ أن تاريخ الأحداث لشعب ووطن، أو أمة بمفهومها الواسع مثل العربية – الإسلامية لا يعد مباراة في كرة القدم، أو رياضات أخرى مرتبطة بالزمن القصير جدا، بل هي منعطفات تاريخية تخضع لما يلي:
أولا، فترة زمنية تشمل جيلين أو ثلاثة أجيال لترسيخ فكرة التغيير لتحقيق تغيير جذري حقيقي للانتقال إلى مرحلة مختلفة، خاصة في حالة العالم العربي والإسلامي، الذي خضع لقرون من هيمنة الفكر الظلامي، ثم الاستعمار، وأخيرا أنظمة ديكتاتورية وسلطوية بعضها من أسوأ الأنظمة خلال الخمسين سنة الأخيرة في العالم مثل حالة النظام السوري. وبالفعل، فقد ترسخت فكرة وحلم التغيير لدى الشعوب العربية حاليا، فرغم عودة الديكتاتورية في دول مثل مصر وتونس والفوضى في أخرى مثل ليبيا واليمن، أصبحت الشعوب العربية تتوق للتغيير لأنها لا تريد أن تكون حالة شاذة بين شعوب العالم وفي التاريخ، أي قدرها هو أنظمة ديكتاتورية. ويمكن الاستشهاد في هذا الصدد بدول أمريكا اللاتينية، فقد شهدت بداية الديمقراطية في العقود الأولى من القرن العشرين، لكنها سقطت لاحقا في يد أبشع الديكتاتوريات العسكرية مثل حالتي تشيلي والأرجنتين والآن تعيش في ديمقراطيات تحاكم رؤساءها.
ثانيا، هذا المسلسل يواجه تحديات كبرى يمكن تصنيفها في حالة الربيع العربي بـ»الثورة المضادة» كما وقع في أوروبا في القرن التاسع عشر ومثال أمريكا اللاتينية السابق، وهي إصرار شريحة من المسؤولين والمواطنين على رفض التغيير والإبقاء على الوضع السائد بالعنف المفرط. وهذا يترتب عنه نكسات في بعض الأحيان، توحي بأن التغيير مستحيل. وبالفعل رأينا بعد الربيع العربي كيف تحركت دول عربية وأجنبية، لتشكل الثورة المضادة لوقف مسلسل التغيير، وروجت لسردية سعت للتحذير من الربيع العربي، وكأنه كفر وزندقة وفوضى. وأحيانا، قد يحمل التغيير جماعات تحركت باسم الحرية وتصبح ضد الحرية، وقد يحدث هذا في سوريا بسبب طبيعة المقاتلين المنحدرين سياسيا من الفكر الإسلامي السياسي المتشدد، ويقدمون أنفسهم حاليا بأنهم براغماتيين سيحترمون على الأقل الحد الأدنى من الديمقراطية، التي ستضمن التعايش بين مختلف الإثنيات والمذاهب في هذا البلد.
ثالثا، تلعب وستلعب قوى أجنبية دورا يختلف بين الثانوي والرئيسي في توجيه دفة تطورات الأحداث، وسيعتقد المواطن أن كل شيء مخطط له في مكاتب الدراسات الاستراتيجية في الغرب، وما الشعوب سوى دمية تتقاذفها مصالح الدول الكبرى. والواقع أن الدول الإقليمية والقوى الكبرى تتأقلم مع التغييرات وتبادر بإجراءات توحي بأن كل شي مخطط له سلفا.
ختاما، وعليه، طالما يستمر القمع وخروقات حقوق الإنسان ونهب الثروات وغياب الديمقراطية في العالم العربي، سيستمر حلم الربيع العربي في صيغ مختلفة لأن الشعوب العربية لا تريد أن تكون حالة شاذة بين شعوب العالم، أي قدرها أنظمة سلطوية، وأن مفهوم الربيع العربي هو أوسع وأشمل وأصبح يعني «العيش في ظل الكرامة والحرية» وأن على الحكام التعلم من التجارب السياسية حتى لا يكون مصيرهم مثل بشار الأسد وحسني مبارك والقذافي و..
كاتب مغربي