بعد الحرب العالمية الأولى التي تلت انهيار الدولة العثمانية، أظهر أبناء هذه المنطقة مقاومة عظيمة ضد الاستعمار. فالدول التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، خضعت لحكم أنظمة عسكرية ديكتاتورية قيّدت استقلال الشعوب. وكان من اللافت أن الانقلابات العسكرية في تلك الدول تزامنت مع قيام دولة إسرائيل، وهو ما يثير الكثير من التساؤلات والشكوك. وتحت مسمى «القومية»، استولت هذه الأنظمة العسكرية على السلطة، وجعلت من دولها سجناً كبيراً وحولتها إلى مسالخ، وقامت بما لم يقم به الاستعمار بحق شعوبها. وخلال فترة الحرب الباردة، كانت هذه الأنظمة، المدعومة، إما من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، أو من جهاز المخابرات الروسية، تجعل حياة كل من ينتقد سلطاتها لا تطاق. ومن الطبيعي أن يكون الهدف الرئيسي لهذه الأنظمة العسكرية القومية المزيفة في هذه المنطقة المسلمة هو تحطيم الأجيال المتدينة، لأنها كانت تمارس كل هذه الاضطهادات نيابة عن أسيادها الغربيين.
لم تقتصر وحشية نظام الظلم في صيدنايا على الإجرام والقتل الجسدي فحسب، بل حاصرت البلد بأسره حتى بات سجنا عملاقا
لذلك، يطلق على القرن العشرين في هذه المنطقة «قرن الديكتاتوريات». وكان نظام الأسد في سوريا هو آخر هذه الأنظمة التي خلفها القرن العشرين. المشاهد المرعبة التي وصلتنا من «سجن صيدنايا» كانت في الحقيقة عبارة عن نفق من الرعب يختصر وحشية هذه الأنظمة العسكرية تجاه شعوبها وبلدانها. في سجن صيدنايا، كان يتم دفن الناس أحياء في أكوام الباطون. لا ضوء الشمس ولا حتى فتات من الأمل كان يُترك للسجناء. كان يتم تجريد المعتقلين من أبسط الوظائف الفسيولوجية اللازمة للبقاء على قيد الحياة. والأكثر إيلاماً، هو وجود فئة من «البشر» المستعدين لتبرير هذه المشاهد المرعبة، أو حتى السعي إلى التستر عليها.
لم تقتصر وحشية نظام الظلم في صيدنايا على الإجرام والقتل الجسدي فحسب، بل حاصرت البلد بأسره حتى بات سجنا عملاقا. كانت استراتيجية «الأسد أو نحرق البلد» تُطبق عبر قمع الشعب وحصاره، وإجباره على الهجرة. ونتيجة لذلك، تحولت البلاد إلى «مسلخ بشري» بكل معنى الكلمة. ففي بداية الثورة السورية، قال بشار الأسد لزوار من إيران والعراق ولبنان: «والدي لقنهم درسا أسكتهم ثلاثين عاماً، وأنا سألقنهم درساً لن ينسوه لمئة عام». والحقيقة أن الطاغية كان يعتبر هذه القضية دائماً صراعا طائفيا، ولم يكن مستعداً للتفاوض أو البحث عن حل وسط مع شعبه. خلال فترتي حكم حافظ الأسد، وابنه بشار الأسد، تم بناء عشرات السجون، وتعرض أكثر من نصف سكان البلاد للقمع عبر آلة الرعب هذه. وأصبحت سوريا تحت حكم نظام استخباراتي، وانتشرت ذكريات الرعب من السجون في جميع أنحاء البلاد، ما جعل الشعب يفقد القدرة حتى على الكلام. كان الناس يخشون حتى من ذكر مفهومي الحرية والعدالة في الشوارع، أو في منازلهم. وكان الفهم السائد بينهم هو أن «الجدران لها آذان»، وهو ما قضى على ثقافة النقد في البلاد تماما. لم ينجُ من آلة القمع هذه أحد، فقد طالت اليساريين والليبراليين والمتدينين والديمقراطيين والشيوعيين والمسيحيين والدروز، والعلويين والسنة والأكراد والتركمان، أي جميع شرائح المجتمع. وكانت هناك قاعدة واحدة سائدة في البلاد: إما أن تطيع، أو أن تصمت.
في الختام، لم يكن نظام الأسد هو آخر الأنظمة العلمانية في الشرق الأوسط، ولا كان ديمقراطياً، ولا قومياً عربياً، ولا اشتراكياً، بل كان، في الواقع، أعتى الأنظمة الدموية والطاغية في تاريخ الشرق الأوسط، واستند إلى أقلية طائفية للحفاظ على سلطته، وعندما سقطت هذه الديكتاتورية التي حولت سوريا إلى سجن كبير، استفاقت جميع المجموعات الإثنية والدينية والفكرية في البلاد من نومها، ونجحت في تحطيم جدار الخوف. واليوم، مع سقوط نظام الأسد الظالم، يفتح السوريون صفحة جديدة، ويبدؤون في بث أمل جديد لسوريا مليئة بالعدالة والكرامة، وهي التي طالما حلموا بها. إذا كان سيتم بناء سوريا جديدة، فإن هذا البلد سيضمد كل جراحه ويمضي نحو مستقبل تسود فيه الحرية والقانون وحقوق الإنسان. الظلم ينتهي حتما، لكن أمل البشرية لا ينضب أبدا.
كاتب تركي