حين تقرأ عزيزي القارئ رواية «الأمير الصغير» لأنطوان دو سانت أكزوبيري، فأنت تقرأ رواية قال عنها كبار النقاد في العالم، إنها إحدى أعظم روائع الأدب الفرنسي، وهي واحدة من أهم وأشهر روايات أدب الأطفال في العالم، وهي رواية للكبار قبل الصغار، على حد سواء، وهي من أفضل ما كُتب في القرن العشرين. ونظرا إلى قيمة هذه التحفة الأدبية فقد كُتبت عنها مئات المقالات والتحليلات النقدية، شارحة محتواها، مفسرة جمالياتها وأفكارها، وها هو أحد النقاد يقول عنها وعن ظروف كتابتها: في منفاه في أمريكا كتب أنطوان دو سانت حكاية الأطفال الغامضة، «الأمير الصغير»، التي عُرف عن طريقها في جميع أنحاء العالم، والأمير الصغير هو تلك الشخصية الفريدة التي ابتكرها الكاتب، وجال من خلالها أنحاء العالم، وقد ولدت لديه فكرة الرواية في صيف 1942 عندما رسم صبيا صغيرا أشقر على غطاء طاولة في أحد مطاعم نيويورك، فاقترح عليه الناشر الأمريكي يوجين رينال يومها أن يجعل منه بطل قصة للأطفال، وهكذا حدث وكتب أنطوان دو سانت الرواية ونشرها، وعلى الأثر نالت حكايته نجاحا هائلا لما تضمنته من تعاليم ورسائل أخوّة وصداقة وحب تتلاءم مع جميع الثقافات، عبّر عنها الكاتب بأسلوب شاعري.
الهم الإنساني
أما أنطوان دو سانت كاتب الرواية فقد قيل عنه، إنه كان يحاول في كل كتاباته أن يجد معاني كل سلوكيات وتصرفات البشر في مجتمعه، كما حاول أن يحلل القيم الأخلاقية في مجتمع عصري يتحول نتيجة للتقنيات الحديثة، وكان يستاء من وجود بعض اللا أخلاقيين في المجتمع. بينما تستمد «الأمير الصغير» خصوصيتها من حياة كاتبها الذي انشغل بالهمّ الإنساني، وسعى إلى الغوص في جوهره عبر التأمل والحكمة، باحثًا عن المعنى الروحي للوجود، وهو القائل: «لا نرى إلا بواسطة القلوب، وجوهر الأشياء لا تراه العيون». ويمكن القول إن الميزة الرئيسية في رواية «الأمير الصغير» هي أنها رواية ربما تستعصي على التصنيف، إذ هي رواية شاملة لكل التصنيفات الروائية. هي رواية الواقعية السحرية، رواية الخيال العلمي، رواية الصغار، وفي الوقت نفسه هي رواية الكبار. هي كل ذلك معا، وتحتوي كذلك على مجموعة من الرموز التي لا يستطيع أحد أن يقول إن تأويله لها هو التأويل الأوحد أو الأصح، ستظل رموزها تكشف أسرارها كل يوم. الزهرة رمز، الثعبان، أشجار الباوباب، سكان الكواكب بما فيهم من عيوب أو ميزات، شخصية الأمير الصغير نفسها. كل هذه الرموز يمكن أن تفسر ويتم تأويلها على نواحٍ عديدة، دون أن نتأكد من أن هذا التأويل صحيح أم خاطئ. ومن هنا ولدت عبقرية هذه الرواية التي جعلتها تستمر إلى الآن حتى بعد رحيل مؤلفها بعشرات السنين.
نجاح هائل
كذلك يجد من يقرأ هذه الرواية أنها تتعاطف مع الإنسان، بنموذجيه الطالح والصالح. تتعاطف مع الصالح لتظهر قيمته في المجتمع، ومع الطالح لتلفت انتباهه إلى الطريق الخطأ الذي يسير فيه، إنها تدق ناقوس الخطر حتى يفيق ويعود إلى رشده وصوابه. في روايته هذه يبدو أنطوان دو سانت، منحازا إلى الإنسان، مشفقًا على بعض النماذج اللا أخلاقية التي يراها في المجتمع. إنه ينتقد الحاكم المتسلط، الإنسان الذي لا يفيق من سُكره، وهو بهذا عالة على المجتمع، ينتقد المغرورين الذين لا يرون في الوجود سواهم، ظانين أنفسهم هم الأفضل. ينتقد من لا يهتمون في حياتهم سوى بالحسابات والأرقام، لكنه في الوقت نفسه يُعلي من قدر كل من يهتم بغيره لا بنفسه.
جان بيار جينو، المتخصص في أدب أنطوان دو سانت، يرد على سؤال وُجّه إليه: ما هو سر النجاح الهائل الذي حقّقه هذا الكتاب ولا يزال يحققه حتى اليوم؟ قائلا: لقد أراد أنطوان دو سانت في هذا الكتاب إيصال مجموعة من الرسائل، أوّلها، أنّ علينا ألا ننسى أبدا طفولتنا، ولا يعني ذلك أنّ علينا ألا ننمو ونكبر، بل المقصود هنا بالطفولة هو القدرة على الحفاظ على نضارتنا وأسئلتنا ودهشتنا بالأشياء الجميلة حولنا، كأن كل صباح يأتي، هو الصباح الأول على الأرض. كما يشير أحد المهتمين بكتابات أنطوان دو سانت، إلى أنه أنجـز عمله الأدبي في ظروف مملوءة بالحزن والوحدة، لم يكتـــب «الأمير الصغير» من أجل أن يتحــول يوما طبخة دسمــة فــــي سوق تتزاحم فيها كل أنواع المواد التجارية من دُمى وأقلام ومناشف وغير ذلك من مشتقات السوق الباحثة عن الربح في كل الوسائل. فإلى جانب الاهتمام الأدبي بالكاتب وكتابه هناك اهتمام تجاري بارز يجعل من «الأمير الصغير» مادة استهلاكية بامتياز. أما الحزن الذي أشرنا إليه في نتاج الكاتب الفرنسي، ففي إمكان القارئ الوقوف على نبراته في كل صفحة من صفحات «الأمير الصغير»، ذلك أنه عبّر في هذا الكتاب عن آخر شهادة له بعدما فقد طائرته التي كانت تنقله بين القارات، وبعدما أصبح الوطن بالنسبة إليه سرابا، فلم يبق من حوله سوى صحراء قاحلة ونجوم بعيدة المدى والمنال، ما دفعه إلى أن يترك «أرض البشر» مفضّلاً التحليق في فضاءات قريبة من السماء والماء.
مرض عضال
يتساءل أيضا إبراهيم الخطيب في مقال له فيقول: ما الذي حدث في ذلك اليوم الأخير من أيام شهر يوليو/تموز، وبالضبط في الساعة الواحدة والنصف بعد الزوال عندما اختفت طائرة الكاتب من على شاشة رادارات القيادة العامة الأمريكية؟ هل أسقطت طائرته من طرف المدافع الألمانية المضادة للطائرات؟ أم أنها تهاوت في الفراغ بسبب عطب ميكانيكي؟ أم بسبب حادث اصطدام؟ أم أن الأمر لا يتعلق سوى بانتحار؟ إن الذين يرجمون بهذا التخمين الأخير يستدلون كون الكاتب، قبل الخروج لإنجاز مهمته، ترك ورقة صغيرة كتب فيها: «لو أسقطوني فلن أستغرب من شيء. إن جحر نمل المستقبل يخيفني، فقد ولدت لأكون مجرد بستاني. وداعا». أم تـُرى أنطوان دو سانت اصطنع موته، ومضى للعيش في مكان مجهول، بعيدا عن العالم، ربما في صحراء المغرب، التي كان يعرفها شبرا شبرا؟ لقد سادت هذه التخمينات لدى المحققين والفضوليين وعشاق الكاتب مدة طويلة، مصحوبة بأسئلة تصعب الإجابة عليها، لكنها جميعا ساهمت في تضخيم أسطورة ذلك الروائي، الذي كان محاربا باسلا، وكان قد كتب ذات يوم: «ليست الحرب مغامرة، إنما هي مرض عضال».
«الأمير الصغير» صدرت مؤخرا بترجمة كاتب هذه السطور عن دار نشر نفرتيتي في القاهرة.