في عمله الأخير “عزبة المشمش” يلجأ الكاتب المصري سمير المنزلاوي إلى البيئة المحيطة به، واقعه المحلي. يرسم لوحات متجاورة، متناغمة، داخل بنية موحدة، نستطيع أن نلتقط منها رائحة المكان وخصوصيته، ونتعرف إليه، بسهولة، من خلال الحكي الدال، والذي يحدد ما يريد الوصول إليه، من دون مناورات سردية كثيرة.
ففي هذه المجموعة القصصية، يبدو الكاتب وثيق الصلة بعالمه القريب، مدققاً في ظواهر الأشياء التي يتناولها، على نحو ييسر له التعبير عنها، يكتب عمَّا عاينه، أو ما تناهى إلى سمعه من حكايات القرى، مستلهماً روح الدراما بصورة غير مباشرة، كعامل مهم من أدوات التأثير، التي تحكمها علاقات التوازن بين الكاتب والقارئ. حيث تتيح له وحدة المكان والزمان في بنية محددة، التوجه السريع إلى القلب من القصة. لا يكتب معتمداً على العمليات الذهنية، أو العقل اللاواعي، إنه يزرع نفسه في الحكاية، حتى يتسنى له توجيه مسارها والتحكم في نهايتها، من دون أن ينقاد إلى مساحات غير مأهولة، لم يكن يرغب في الوصول إليها، مفضلاً القيام بدور الراوي الذي يتحدث عمَّا حدث للآخرين. إنه يختزن كثيراً من القصص، ومن التراث الشفاهي لقريته، تسعفه ذاكرة جيدة، وهو يحاول إعادة اكتشاف الأشياء، مرة أخرى، عندما يخطها على الورق، مجسداً لها في مشاهد تقترب كثيراً من الحقيقة.
فهو يعتمد شخصيات من الحياة العادية، لا تلفت الأنظار، ولا تحمل صفات استثنائية، أو تشطح عبر عوالم أرستقراطية، هلامية، بحثاً عن حياة مخملية، متماهياً مع طبقة الفلاحين، وصيادي بحيرة “البرلس” القريبة من قريته، التي تقع بجوار نهر النيل، منتمياً إلى تلك العوالم. فهو لم يبتعد عن موطن آبائه، ولم يشد الرحال إلى القاهرة، مثلاً، ليرى من هناك ما يجري في قريته، ولم يمكث طويلاً في أي مكان آخر، ليراقب منه التفاصيل الصغيرة التي يحتاج إليها في بناء قصته، إنه يفضل التقاط الحكايات الملقاة على قارعة الطرق والدروب، التي يعرف جيداً مسالكها، وتجوس أقدامه بسهولة في أزقتها.
في قصة “مقامات الطفل” يتعرض لتلك الحكاية التقليدية: الرجل الفقير، الذي لديه ابنة جميلة، يأتيه أحد أثرياء القرية طالباً يدها، رجل يقربه في العمر، ولديه زوجتان أخريان، ولكنه محروم من “الولد”، فذريته كلها من البنات. الجديد في هذه الحكاية، هو التفاصيل المختلفة، كان من الممكن أن يذهب القارئ إلى توقعات أخرى، أن يكون الرجل الثري، والذي يعد من كبار البلدة، رجلاً قبيحاً، شريراً. سيعرِّض والد الفتاة للأذى في حالة الرفض. لكنه بدا رجلاً حانياً، لطيف المعشر، والفتاة طيبة، غير طامعة، رغم اعتقادها السابق بأنها سوف تكون من نصيب أحد شباب القرية، الذين حدد الراوي أسماءهم، وصفاتهم، وهو يصف لنا أحلامها كفتاة مراهقة، وجلساتها مع البنات، أترابها، على نحو أضاف إلى القصة ملمحها الجمالي. ثم الانفعالات والعواطف الجياشة بين الفتاة وزوجها، السعي المحموم وراء “خلفة الولد”، الوصفة الخرافية في الذهاب إلى مقابر القرية وقت صلاة الجمعة، وإقامة بعض الطقوس المعينة من أجل الحمل، والإنجاب. إنها العناصر الفنية التي استطاع الكاتب أن يستخدمها. لتضيف بعض الجاذبية إلى قصته وهو ينسج هذه التفاصيل.
في قصة “جماد” ثمة حكاية نادرة، لم تستهلك كثيراً في السرد. وهي قصة بطلها “فرن”، فرن بيتي، كهذا الذي كان موجوداً في معظم القرى المصرية شمالاً وجنوباً، غرفة الفرن هي المعادل لغرفة المطبخ في المدن، حيث تقضي النسوة معظم أوقاتهن بداخلها. في الريف يتم بناء الفرن بمواد محلية، ويقومون بإشعاله عن طريق تلقيمه بالحطب والقش ومخلفات البيت التي تصلح للاشتعال. ومثل المطبخ أيضاً، حيث تنطلق خيالات النساء محلقة في عوالم تخصهن أثناء الطبخ، أو تنظيف الصحون والقدور. تنطلق حكايات النساء وهن جالسات أمام الفرن، يقمن بالخبيز والطبخ أيضاً، والتسرية عن أنفسهن بالنميمة، وبأخبار الوسط الضيق المحيط بهن. بطلة القصة تجلس وحيدة أمام الفرن، تقيم معه حوارات متخيَّلة. تنطلق من عقلها، المثقل بالأفكار. نشعر معها بأن الفرن كائن حي، شاهد على أسرار البيت، ليس مجرد جماد، كما راوغنا الكاتب بالعنوان، هناك تجري أحداث القصة. ويُدار السرد بين جدران هذ المكان، الذي يتحول أحياناً إلى مصدر للرعب، حيث تخرج الجنيات من عين الفرن المشتعلة، لتغلق النص على خاتمة لا تنتمي إلى الحقائق الواقعية المألوفة لدينا، ولكنها تنتمي إلى الخيال الأدبي المثير، والقابل للتصديق.
عندما تتشابه حكايات القرى، وتتكاثر النسخ المتكررة على الألسن، أو المحفوظة في خزائن الذاكرة، فليس من المهم إعادة سردها، إذا كانت ستتخذ لها المسار التقليدي نفسه، أو تقديمها، على نحو مباشر، دون قدرة على تطويرها فنياً، وشحنها بالحيوية اللازمة، التي تعطي للعمل قيمته. لذا يحاول المنزلاوي التخلص من هذا المأزق، والالتفاف على النص وتزييف “الحدوتة” الأصلية من أجل أن تكون مقنعة، يمتزج فيها الواقع بالخيال، بنوع من الحساسية الفنية، حتى لا تضل طريقها إلى القارئ.
ففي قصة: “عرق النسا”، ثمة صبي في عمر المراهقة، مستثار جنسياً طوال الوقت، منشغل كلياً بالخيالات المحرَّمة، وصور العلاقة الحميمة، يريد أن يتحول إلى “عصفورة”، ليستطيع الاختباء في دكان البقالة الذي يمتلكه أبوه، ليتلصص عليه من النافذة، عندما تأتي إليه “سميحة” تلك المرأة الشابة الجميلة. يريد أيضاً أن يتحول إلى صابونة أو علبة سجائر ليكون قريباً من همساتهما، وليشاهد تلك المداعبات المتعجلة السريعة قبل وصول أحد من الزبائن، إنه يطلب من “عفريت” يصاحبه تنفيذ هذه الأمنيات، لا يهمه قلق أمه من سميحة، وسؤالها الدائم: هل ذهبت إلى الدكان؟ الأب والابن، تقودهما الغريزة الجنسية، تمضي الحكاية في مسارات تدور حول بعض العناصر: جنس وغيرة وعفاريت. لا رمزيات، ولا إسقاطات. لا شيء من تلك الاكتشافات النقدية المجانية، التي يتم الدفع بها لترجيح كفة النص، وإضفاء أبعاد فنية عليه، وهي غير موجودة فيه على الإطلاق.
الكاتب مخلص لفن الحكاية، يذكّرك بالروائي الراحل خيري شلبي شيخ حكائي الرواية العربية. ربما لأنه ينتمي إلى تلك المحافظة أيضاً، كفر الشيخ، الزاخرة بحكايات الفلاحين والصيادين، حيث تدور أحداث هذه الإضمامة.
يلجأ المنزلاوي إلى واقعية الوصف للنماذج الحية التي يصورها، غير معني بتغير بنية العصر، ورصد التيارات المتضاربة فيه، فالكاتب هنا ليس له وجوده الخاص، الذي يسعى من خلاله إلى تمرير آرائه، إنه راوٍ محايد في كثير من الأحيان، يحاول كتابة نص موضوعي، حتى لو كان سرداً لواقع قبيح أحياناً، أو حياة تقوم على الرتابة، وهو يسجل الوقائع المشهورة داخل هذا المجتمع الصغير.
في الفن فقط يحدث كل شيء، لا يحول بين أماني الشخصيات وتحقيقها أي عائق. فمن خلال فنون الدراما والأدب تم تحطيم المستحيل، وجعل كل الأشياء ممكنة.
من خلال الإسهاب والتفصيل، والتأسيس التدريجي للأحداث، على نحو بطيء، تجري بعض قصص المجموعة، مثل افتتاحية الكاتب في قصة “الجرادة”، التي تلقي الضوء على المكان، وتجعلنا نشم رائحة الطمي والزرع وروث البهائم، ونرى الحقول المترامية بعين الخيال، ونحن نتابع هذه الكلمات: “لما تنضج سنابل القمح، تصطبغ حقولنا الممتدة على مرمى البصر بلون شمس الصيف الشابة، تستلقي كل واحدة منها فوق أختها تستريح. تتنفس كلها رائحة يعرفها الكبار والصغار. وقتئذ تصحو المحلة من غفوتها الطويلة ولا تنام ثانية حتى تتعرى الأرض، وتمتلئ الصوامع والجيوب”.
ما سلف، كان وصفاً تصويرياً لأجواء المكان، حيث تدور معظم القصص. أما السطور القادمة فهي تمثل الانتقال السردي إلى البشر، الشخصيات التي تدور حولها الأحداث، الطباع، الصفات، الأفكار، الأحاديث المفضلة لديهم، نمط الحياة هناك: “الرجال الذين هرموا يرقدون على ظهورهم يحكون قصة سيدنا الخضر الذي أهداهم محصول الأرز المبارك. طار به من شاطئ البحر الأصفر وزرعه في الأرباض، ثم زار شلبي عجوة في المنام وعلمه زراعته بالشتلات، ذلك لأن أرض المحلة طاهرة، وأهلها من نسل الأنصار كما تحكي الكتب القديمة المحفوظة في بيت آل عجوة الكرام. تنتصب آذان الغلمان بجوار الحقول ليكون سماع البشارة من نصيب أحدهم. تأتي دائماً على شكل زقزقة خافتة تصدرها السنابل: سبحان من جعلنا رزقاً للعباد. تكون الزقزقة إيذاناً بموسم الحصاد”.
من خلال الفقرتين السابقتين، تمّ تلخيص شكل العالم القصصي الذي يدور الكاتب في فلكه، وينهل من مخزونه الوفير، مرخياً العنان للتفاصيل الدقيقة.
إنها قصة الزرع والحصاد، وامتلاء الجيوب، وزواج الأنجال، والسعي إلى الحج، مواسم الفرح والسعادة لأصحاب الأراضي الزراعية، وكذلك بوادر القلق الذي يساور الفلاحين، الذين يعملون بالأجر، خشيتهم من دخول الآلات الحديثة إلى الحقول، لتوفير الوقت والأيدي العاملة، دون أن تأبه لحاجة الفقير إلى العمل.
رغم سيره في أرض مطروقة، سارت على أديمها أسماء كبيرة، كعبد الحكيم قاسم، محمد البساطي، سعيد الكفراوي، محسن يونس.. إلخ، فإن المنزلاوي يحاول أن يجد لنفسه موطئ قدم بين هذه الأسماء، عبر اكتشاف نفسه أولاً، والبحث في المناطق التي ما زالت تحتفظ ببكارتها، مناجم الحكايات المطمورة تحت الأرض: سلوكيات البشر، التقاليد الموروثة، تحرير الشفاهي من محدوديته، من الالتصاق بالألسن فقط، ودفعه إلى الورق وفقًا لمعايير الأدب. فالشفاهي يضمحل مع مرور الزمن، إذا لم يجد يداً تنتشله من النسيان. هو ما يجاهد المنزلاوي إظهاره عبر عديد من نصوص هذه المجموعة تحديداً، حيث الخبرة بميكانيزمات هذا العالم الريفي، المتشبع بالماضي، تاريخه القريب ما زال ماثلاً. إنه الإخلاص للمكان، وإعطاؤه الأولوية في الكتابة، بنوع من الحنين والوفاء، والإلمام بكل الممارسات الإنسانية، وأساليب العيش في هذه البيئة شديدة المحلية، كما في قصة “الذي شبع” وهي عن انتخابات عمدة للقرية، واستعداد أهل القرية للتصويت للحاج فرج وإعادته إلى منصبه فهو “كان دائماً رحيماً فروج اليتيمات، وحازماً فجلد السراق، وعادلاً فطرد بسيوني عامر لنجاسة ذيله”.
إنه السعي وراء العدل والحياة الكريمة. بينما لم يُعِر الناس اهتماماً لمنافسه، كانوا يقولون كيف لجربوع عاطل “شبع بعد جوع” كما يصفونه، أن يتجرأ على الرجل الصالح. إنها لعبة الحكم الرشيد في أقل نماذجها حجماً، التي تواكب الفطرة النقية لهؤلاء البسطاء، التي جعلت المنافس نفسه يعطي، تلقائياً، ناسياً بالطبع، صوته للعمدة الأصيل، دون أن يدري بما فعل، وسط ذهول أهله وحاشيته، وأبناء القرية جميعاً، إنها كرامات الصالحين التي تحفظ تلك الأرض الطيبة.
سمير المنزلاوي: “عزبة المشمش”
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2022
151 صفحة.