في العدد الأخير من أسبوعية The Spectator البريطانية يتساءل دافيد كريستوفر كوفمان، الكاتب والمعلّق الأمريكي ذائع الصيت؛ إنْ كانت أنّا ونتر، رئيسة تحرير مجلة “فوغ” الشهيرة و”ملكة الموضة” كما تُلقّب، سوف تعتذر من الشعب السوري في أيّ وقت قريب. وهو، بالطبع، يشير إلى عدد سابق من المجلة، يعود إلى سنة 2011، نشر مادة مفصلة عن زوجة رأس النظام آنذاك بشار الأسد؛ امتدت على 8 صفحات، كتبتها جوان جولييت بَك رئيسة تحرير النسخة الفرنسية من المجلة (11,7 مليون قارئ).
النصّ حمل عنوان: “أسماء الأسد: وردة في الصحراء”، واحتوى على إطراء صارخ لخصالٍ ومزايا ومحاسن، وتلفيق فاضح لأدوار “إنسانية” و”إصلاحية” تلعبها تلك “الوردة” في حياة سوريا.
بعد أسابيع قليلة أعقبت انطلاق الانتفاضة السورية ونشر مقالة “فوغ”، كانت سوريا تعدّ 5,000 قتيل برصاص جيش الأسد وأجهزته الأمنية وميليشياته، في عدادهم مئات الأطفال؛ فجوبهت المجلة بحرج شديد اضطرّت معه إلى سحب المادّة من الموقع الإلكتروني، لكنّ التحرير لم يعتذر البتة (حتى الساعة في الواقع)، وعلى منوالهم امتنعت كاتبة المقال عن أيّ تعليق يفيد الأسف أو الاعتذار.
كذلك اقتصر دفاع التحرير على القول بأنّ الغرض من نشر المقالة كان “فتح نافذة على هذا العالم”.
وفي آب (أغسطس)، من ذلك العام، تكشفت معلومة تقول إنّ مجموعة الضغط الأمريكية براون لويد جيمس، المتخصصة في العلاقات العامة، كانت تقبض من النظام السوري 5,000 دولار أمريكي شهرياً، لقاء ترتيبات نشر المادة في “فوغ” والإبقاء عليها ما أمكن.
ولا عجب، والحال هذه، أن تسير الفقرة الأولى من مدائح “فوغ” هكذا: “أسماء الأسد، سيدة سوريا الأولى الديناميكية، على رأس مهمة لخلق منارة من الثقافة والعلمانية في منطقة هي برميل بارود، وأن تسبغ على نظام زوجها وجهاً حديثاً.
أسماء الأسد متألقة، شابة، وبالغة الأناقة، الأنضر والأشدّ جاذبية بين السيدات الأوائل. أسلوبها ليس بريق الأزياء والمجوهرات السائد في الشرق الأوسط، ولكن النأي المتعمد عن التبجيل.
مجلة ‘باري ماتش’ تقول عنها: “عنصر الضياء في بلد طافح بالمناطق الداكنة.
إنها سيدة سوريا الأولى”.
نفاق “فوغ”، مدفوع الأجر دائماً، كان مجرّد عيّنة عن حملات تلميع صورة الأسد الابن، في وسائل إعلام غربية عموماً وأمريكية بصفة خاصة؛ شهدت إسباغ الألق على “الحاكم الشاب”، “طبيب العيون”، “خرّيج المشافي البريطانية”؛ ثمّ معه أو من بعده، زوجته “الأنيقة”، “صاحبة الابتسامة الرقيقة”، “وردة الصحراء” التي ترعرعت في بريطانيا… وكانت هذه العدوى قد انتقلت من الصحافيين والساسة والخبراء إلى أناس يصعب أن ينتظرهم المرء في هذا المقام. ففي أواخر العام 2009 كانت الطائرة الخاصة للمخرج الأمريكي الشهير فرنسيس فورد كوبولا قد مُنعت من الهبوط في مطار بيروت، تنفيذاً لبنود مقاطعة إسرائيل؛ لكن الأسد سمح لها بالهبوط في مطار دمشق، وبعدها استقلّ كوبولا طائرة رئاسية خاصة نقلته إلى بيروت، بعد وليمة رئاسية دافئة حضرتها “الوردة” إياها، حيث عجز كوبولا عن إخفاء مديحه لـ”الرؤيا” التي يحملها الأسد عن سوريا! طريف إلى هذا أنّ كاتبة مادة إطراء أسماء الأسد وقعت في حيص بيص حين فرّ الأخير من سوريا، وكانت زوجته قد سبقته إلى موسكو؛ فلم تجد ما تعلّق به على الحدث في وسائل التواصل الاجتماعي، سوى… استعادة الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، وقصيدته “الإله يتخلى عن أنتوني”! وهذا، كما هو معروف، نصّ يستوحي محنة القائد الروماني الشهير قبيل إقدامه على الانتحار، بعد هزيمته النكراء أمام جيوش أوكتافيوس، وخسران الإسكندرية؛ ومطلعها يقول: “بغتة، عند منتصف الليل، تصغي/ إلى مرور موكب غير مرئي/ تصحبه موسيقى شجية، وأصوات/ فلا تعلنّن الحداد على حظك المائل الآن”… ويصعب التكهن حول أغراض بَكْ من استحضار كافافيس، وهل أرادت الشماتة أم الشفقة أم التضامن مع الطاغية؛ ما خلا بالطبع أنّ سوريا التي فرّ منها الأسد الابن ليست الإسكندرية، ولم يخسرها مجرم الحرب لأنّ الآلهة خذلته، بل لأنّ أربابه في طهران وموسكو تخلوا عنه وقذفوا به إلى سلّة مهملات التاريخ.
الأكيد، مع ذلك، أنّ قصيدة كفافيس ليست اعتذاراً عن مقالة المدائح الرجيمة الهابطة، ولا تنوب عن تحرير المجلة في واجب الاعتذار من سوريا وشعبها؛ خاصة وأنّ كوفمان، في مقالته المشار إليها أعلاه، يذكّر بأنّ الحال لم تكن هكذا حين تعالت موجة الأصوات المطالبة بإنصاف السود، في الولايات المتحدة أوّلاً، فكتبت رئيسة تحرير “فوغ” اعتذاراً صريحاً جاء فيه أنّ المجلة: “لم تجد سُبُلاً كافية للارتقاء ومنح المساحة للسود من المحررين، والكتّاب، والمصوّرين، والمصممين وغيرهم من المبدعين. ارتكبت المجلة الأخطاء، فنشرت صوراً ومواضيع مؤذية أو غير متسامحة. وإنني أتحمل مسؤولية كاملة عن تلك الأخطاء”.
بافتراض أنّ المرء لا يأنس في نفس بَكْ تعاطفاً ضمنياً مع أسماء الأسد، وطمعاً وحسداً ولعاباً سائلاً، لأنّ طائرة الفرار إلى موسكو لم تفلح في تحميل كامل نفائس الماس والذهب والأزياء والأحذية الفاخرة التي كدّستها “وردة”/ مصاصة دماء.