إسرائيل وغرور الأداة العسكرية

قبل 2011، كانت حكومات تل أبيب المتعاقبة تنجرف تدريجيا نحو اليمين المتطرف واليمين الديني الرافضين لمبدأ الأرض مقابل السلام وحل الدولتين لتسوية القضية الفلسطينية سلميا والمتمسكين بمواصلة الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية وحصار قطاع غزة.
كانت حكومات تل أبيب بذلك تقوض أساس «عملية السلام» بينها وبين الحكومات العربية والتي بدأت بمعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في 1979، ثم تلتها اتفاقات أوسلو 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل واتفاقية وادي عربة 1993 بين الأردن وإسرائيل، ومن بعد الاتفاقات جاءت مبادرة السلام العربية 2002 ومن خلالها طالب العرب بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وباستعادة بقية أراضيهم المحتلة وعرضوا السلام والتطبيع الإقليمي على الدولة العبرية. قبل 2011، كانت حكومات تل أبيب تتنصل تدريجيا من التزامات اتفاقات أوسلو تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله وتجرف القبول الشعبي للتسوية السلمية بين قطاعات الشعب الفلسطيني، وتحاصر غزة وتشتبك عسكريا بين الحين والآخر مع حماس والفصائل المتحالفة معها، وتجعل من سلامها مع مصر والأردن «سلام الحد الأدنى» في ظل استمرار الاحتلال والاستيطان والحصار وترفض الانسحاب من الجولان السورية، وتتورط في صراعات عسكرية مع حزب الله (حرب 2006) ومواجهات متكررة (منفردة أو بالتنسيق مع الولايات المتحدة) ضد حلفاء إيران على نحو هدد الاستقرار الإقليمي، وتبحث عن اختراقات في مجالات التجارة والدبلوماسية والأمن في عموم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون نجاحات كبيرة.
وفي 2011، واجهت إسرائيل خريطة شرق أوسطية مربكة بسبب انتشار الانتفاضات الشعبية وصعود قوى دينية اعتادت استخدام مقولات معادية لإسرائيل وانتمت إليهم فصائل مقاومة فلسطينية كحماس والجهاد، وبسبب سرعة التقلبات السياسية التي أزاحت في تونس ومصر الحكومات القائمة وزجت بليبيا وسوريا واليمن إلى أتون الحرب الأهلية وضغطت على حكام الأردن والمغرب لإدخال بعض الإصلاحات الدستورية والسياسية لتفادي انتفاض الشعوب ودفعت القوى الإقليمية الكبيرة كالسعودية والإمارات وتركيا وإيران إلى البحث عن مواطئ قدم لحماية أمنها ومصالحها وحلفائها في إقليم مشتعل. في 2011، واجهت إسرائيل خريطة شرق أوسطية مربكة وقررت الاشتباك معها دون التخلي عن ثوابتها المتمثلة في التوظيف الممنهج للأدوات العسكرية والتمسك بمواصلة الاحتلال والاستيطان والحصار في الأراضي الفلسطينية وتجريف فرص التسوية السلمية واستمرار الضغط على إيران وحلفائها من الحكومات والميليشيات المسلحة الذين حددتهم الاستراتيجيات الأمنية القادمة من تل أبيب كمصدر التهديد الأكبر الوارد على أمنها.
ومع تراجع الانتفاضات الشعبية والقلق الإقليمي العام من تنامي أدوار وأخطار الجماعات الإرهابية في بلاد الحروب الأهلية كليبيا وسوريا واليمن وبلاد الاستقرار الغائب كالعراق، انتقلت حكومات اليمين المتطرف والديني في إسرائيل إلى المزج بين مواصلة تجريف السلام واستباحة الشعب الفلسطيني احتلالا واستيطانا وحصارا وتوجيه الضربات العسكرية المتتالية للأعداء المتمثلين في حركات المقاومة في فلسطين وفي حلفاء إيران في لبنان وسوريا والعراق، وبين التنسيق الأمني والدبلوماسي والسياسي والتبادل التجاري مع بعض الفاعلين الإقليميين كالإمارات والبحرين والمغرب ومعهم وقعت الاتفاقيات الإبراهيمية في 2020. وكان مزج حكومات اليمين المتطرف والديني المتعاقبة في تل أبيب، والتي قاد معظمها بنيامين نتنياهو كرئيس للوزراء، بين تجريف السلام واستباحة الفلسطينيين وتوجيه الضربات العسكرية لحركات المقاومة ولحلفاء إيران وبين الانفتاح على فاعلين إقليميين متعددين هو العنوان الأبرز للسياسة الإسرائيلية في الشرق الأوسط بين 2015 و2023.

حكومات تل أبيب بمزيجها السياسي والموظف على نحو ممنهج عملت، مستغلة في هذا السياق التأييد الأمريكي الكاسح لأفعالها والتخاذل الأمريكي والأوروبي عن دعم عملية السلام وحل الدولتين وتجاهل واشنطن وكبريات العواصم الأوروبية لمعاناة الشعب الفلسطيني

بل أن حكومات تل أبيب بمزيجها السياسي هذا والموظف على نحو ممنهج عملت، مستغلة في هذا السياق التأييد الأمريكي الكاسح لأفعالها والتخاذل الأمريكي والأوروبي عن دعم عملية السلام وحل الدولتين وتجاهل واشنطن وكبريات العواصم الأوروبية لمعاناة الشعب الفلسطيني وقصر دعمهم على المساعدات الإنسانية والاقتصادية والمالية، على تحقيق دمج إسرائيل الإقليمي أمنيا ودبلوماسيا وتجاريا واستثماريا والاقتراب من قبولها الشامل عربيا بالقفز على الحل العادل للقضية الفلسطينية وعلى شروط مبادرة السلام العربية 2002. وكان الهدف الاستراتيجي البين المبتغى من قبل الدولة العبرية هو التهميش الكامل لفلسطين وللسلام ولفرص حل الدولتين على خريطة الشرق الأوسط وإحلال مسألة مواجهة إيران واحتواء حلفائها ومكافحة الإرهاب والتوافق بشأن ترتيبات للأمن الإقليمي مع الدول العربية الكبيرة كمصر والسعودية والإمارات ومعهم الأردن وتركيا محلها.
ومنذ أكتوبر 2023، لم تقتصر سياسات وممارسات اليمين الإسرائيلي على العنف الممنهج ضد الشعب الفلسطيني، بل امتدت إلى عنف مشابه اتجه إلى لبنان الذي استبيحت أرواح مواطنيه وأرضه وسيادته وعصف بأمنه بغية القضاء على حزب الله عسكريا وتنظيميا وماليا وإبعاده عن المناطق الحدودية ومنع السلاح الإيراني من الوصول إليه مجددا. بل أن الضربات الإسرائيلية المتتالية ضد الوجود العسكري الإيراني في الشرق الأوسط وضد المتحالفين معه أسفرت في سوريا، من بين عوامل أخرى، عن سقوط نظام بشار الأسد وسيطرة فصائل مسلحة على أدوات الحكم والنظام العام واستدعت في اليمن دائرة من التصعيد والتصعيد المضاد بين إسرائيل والحوثيين ضحيتها الملاحة الآمنة في البحر الأحمر.
فحرب إسرائيل في غزة والحرب بينها وبين حزب الله، وبجانب كلفتها الإنسانية الباهظة والدمار الشامل الذي أسفرت عنه في القطاع وفي المناطق ذات الأغلبية الشيعية في لبنان، قضت على الشق الأكبر من القدرات العسكرية لحماس والفصائل الفلسطينية المتحالفة معها وعلى جزء مؤثر من قدرات حزب الله الصاروخية وسلاحه المتراكم بفعل عقود من الدعم الإيراني. أدت الحرب في غزة ولبنان أيضا إلى تصفية الصفوف القيادية الأولى لحماس وحزب الله وأضعفت إمكانياتهما التنظيمية والسياسية على نحو حتما سيغير من وضعيتهما ودورهما فيما خص قضايا الحكم والإدارة في الأراضي الفلسطينية ولبنان. كذلك قربت الحرب بين حكومة إسرائيل المكونة من اليمين المتطرف والديني وبين تنفيذ سيناريوهات فرض مناطق عازلة في شمال غزة وفي جنوب لبنان وتهجير السكان منها، والتهديد الممنهج بتهجير واسع النطاق في القطاع وبعمليات عسكرية وأمنية متكررة فيه وفي لبنان، والضغط المستمر في الضفة الغربية والقدس الشرقية بخليط الاحتلال والاستيطان والأبارتيد المعهود بغية خنق الحق الفلسطيني وإسكات الأصوات الإقليمية والعالمية المتضامنة معه. وفي سياقات الحرب في غزة ولبنان والإضعاف الشديد الذي طال حماس وحزب الله من جرائها ومع تحولها إلى حرب استنزاف إقليمية، وجهت إسرائيل ضربات قاسية لإيران مباشرة ولحلفائها في سوريا والعراق واليمن إن كفعل هجومي أو كرد فعل على هجمات المعسكر الإيراني لترتب، من بين عوامل أخرى، سقوط نظام بشار الأسد وتراجعا ليس بالمحدود في القدرات العسكرية والإمكانيات الاستراتيجية والسياسية لذلك المعسكر الذي تمدد نفوذه بوضوح قبل 2023. بل أن إسرائيل تحقق لها بسقوط نظام الأسد في خواتيم 2024 مغنما كبيرا تمثل في انكماش دراماتيكي في خرائط النفوذ الإيراني التي اختفت منها سوريا، وغلقت عليها الطرق التي كانت تمر عبر الأراضي السورية لتقديم الدعم العسكري والمالي للحليف الأهم حزب الله اللبناني الذي حتما لن يعود كما كان قبل أكتوبر 2023، وانحسرت ساحاتها على الأقل مؤقتا في أدوار الميليشيات الشيعية في العراق وفي أفعال الحوثيين في اليمن.
هذه هي العناوين العريضة للمكاسب الاستراتيجية التي حصلت عليها إسرائيل من حرب الاستنزاف الجديدة في الشرق الأوسط، مكاسب يتجاهل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في معرض الاحتفاء بها كون ثمنها هو آلاف الضحايا من المدنيين الذين سقطوا في غزة ولبنان ومواقع أخرى ودمار إقليمي واسع وتدهور حاد في العلاقة بين بلاده وبين الدولتين العربيتين اللتين وقعتا على معاهدات سلام معها، مصر والأردن. بل أن نتنياهو بلغ به الصلف حد الحديث عن «شرق أوسط جديد» تصيغه إسرائيل، وحدود توظيف أروقة الأمم المتحدة لاستعراض خرائط «لقوى الخير والشر» نازعا منها الدولة الفلسطينية ولاغيا فيها لحق الشعب المحتلة أراضيه في تقرير المصير ومكرسا في سياقاتها لجرائم الاستيطان والأبارتيد والتهديد الممنهج بالتهجير الجماعي وبعقاب الجوار بالأداة العسكرية دون قيد.

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية