تقول نكتة انتشرت في دمشق في بداية الثورة، إن رجلين ينتظران باص النقل الداخلي. سأل أحدهما الآخر: متى يأتي الباص الأخضر (يقصد باص النقل الداخلي. يومها كان الشبيحة يستخدمون باصات النقل الداخلي الخضراء أثناء التنقل لقمع المظاهرات، فصارت رمزاً لهم قبل أن تصبح رمزاً للتهجير بعد اتفاقيات المصالحات سيئة السمعة)، أجابه الرجل الثاني بإمكانك الآن أن تُحضر ثلاث باصات خضراء على الفور إن بدأت بالتكبير. أي أن مجرد نُطق كلمة «الله أكبر» كاف لاستنفار الشبيحة وحضورهم.
عند اجتياح المدن قصفوا المآذن لأنها صدحت بالتكبير، وأطلقوا الرصاص على شبان لأنهم هتفوا «الله أكبر»، كما قُصفت أحياء بالهاون والمدفعية لأن سكانها كانوا يكبرون. فما سر هذه النداء العجيب «الله أكبر» الذي يقرر بديهية يؤمن بها كل البشر من أتباع الديانات السماوية. جميعهم يؤمنون بأن الله أكبر من كل شيء. فلم إذن تستفز حقيقة بديهية تقر بها أكثرية البشرية «الله أكبر»، جنودا وأمنا وشبيحة النظام إلى حد دفعهم لتهديم المساجد وقتل الناس وقصف الأحياء!
من المعلوم أن أي طاغية بعد أن يتجاوز مرحلة معينة من الطغيان، يحسب نفسه إلهاً، وإن لم يعلن ذلك. كل من حوله يهز رأسه مشيداً بكل كلمة يقولها ولو كانت سخيفة. فيعتبرها مثالاً للحكمة والتفكير العميق الصائب لأنه لا ينطق عن الهوى، وكأنه وحي يوحى. كما أن الحكم المطلق يجعله يتوهم نفسه مالكاً قدرات إلهية، فبإشارة من يده يميت، يكفي أن يقول اقتلوا فلانا حتى يُقتل فلان. فيحسب نفسه «يحيي ويميت». ويحول الحكم المطلق الديكتاتور إلى «رزاق» فهو يوزع الثروة كما يشاء «يرفع ويضع». ويدخل الغرور إلى نفسه فيحسب نفسه «الحق»، ولو كان ذروة من ذرى الفساد والظلم. كل من يعاديه يعادي «الحق»، وهذا ما نراه واضحاً في خطاب النظام السوري وجماعته. على سبيل المثال كانت إمارة قطر جيدة ووطنية عندما كانت علاقتها مع النظام جيدة، لكن ما إن صارت ضد النظام حتى صارت سيئة وخائنة، والدليل وجود قواعد أمريكية. مع أن تلك القواعد كانت موجودة عندما كانت قطر على علاقة جيدة مع النظام، وعندما كانت تصنف وطنية. لكن الفرعون وعبدة الفرعون لا يفكرون بهذه الطريقة المنطقية، لأن مقياسهم للحق يعتمد على كونك على وفاق مع فرعونهم، أم لا، فهو الحق والخير، ومن كان ضده فهو الباطل بعينه. وقس على ذلك موقفهم من حماس، ومن مناف طلاس ومن بقية المنشقين الذين كانوا، قبل انشقاقهم، أناساً وطنيين، أما بعده فصاروا خونة!
يحسب الطاغية أنه قد صار إلهاً لامتلاكه بعض صفات الألوهية، فهو لا ينطق عن الهوى «وحي يوحى»، «يحيي ويميت»، وهو الرزاق «يرفع ويضع»، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل. لكن تبقى مشكلة تؤرقه وهي مشكلة الخلود، لأنه من لحم ودم، وبعد سن محددة يحس بأن الضعف قد بدأ يتسرب إلى مفاصله، وبدأت الأمراض تنهش جسده، لكن بدل أن يعيد التفكير بألوهيته المزعومة، ويقتنع بأنه مجرد إنسان مصيره الفناء مهما فعل، وأن الألوهية التي توهمها بفعل خنوع الشعب ونفاق المحيطين به زائفة، فهي زائلة حتماً بأحد أمرين، فإما بفناء بيولوجي أو بثورة الشعب.
بدل أن يعيد التفكير بالألوهية المزعومة نراه يهرب إلى الأمام فيبحث عن الخلود الوهمي بطريقتين: الأولى نصب صوره وتماثيله في كل مكان، وقد رأينا ما فعله حافظ الأسد منذ منتصف الثمانينيات، حينما بدأ المرض يدب في جسده وبعد اقترابه من الموت عدة مرات. بعد إحساسه بالفناء الجسدي عزز بحثه عن الخلود، وهي صفة من صفات الإله، فنشر تماثيله ومظاهر تعظيمه الوهمية في كل مكان ليُقنع نفسه قبل الآخرين بأنه خالد بتماثيله المصنوعة من البرونز الذي لا يصدأ، ويعيش لمئات السنين. أما الطريقة الثانية التي اتبعها للبحث عن الخلود فهي استمرار السلطة في نسله، لذلك نشأت فكرة التوريث متزامنة مع ضعفه ومرضه، كل ذلك ليدفع عن عقله فكرة أنه إنسان فان وليس إلهاً.
ثم تلقف فكرة التوريث لصوص الدولة السورية، الذين سبقوا وتلقفوا فكرة التخليد بالرموز والشعارات، فجنوا ثروات هائلة من صب تماثيل البرونز ومن طباعة الصور والتجارة بالكتب التي تشرح حقيقة القائد الخالد وفكره. تلقف اللصوص فكرة التوريث ليضمنوا استمرار نهبهم وساندهم المجرمون قتلة الشعب السوري ليضمنوا أن لا تفتح ملفاتهم.
سار الوريث على خطا الأب فتأله هو أيضاً للأسباب السابقة نفسها، لكن هذه المرة لم يكن المرض وضعف الجسد من حطم ألوهيته المزيفة الكاذبة، كما هي حال أبيه، بل إن الشعب هو من فعل ذلك. لم يعد هو الذي «لا ينطق عن الهوا» لأن الأطفال الصغار في أبعد قرية سورية صاروا يستهزئون بسخف ما يقول. ولم يعد هو الرزاق، لأن الشعب لم يعد خانعاً ينتظر عطاياه، ولم يعد هو الذي «يحيي ويميت» لأن سيطرته المتناقصة على الأرض، وانشقاقات جيشه، وتابعيه جعل كثيراً من أوامره بلا قيمة. وبالنتيجة لم يعد يملك شيئاً من صفات الألوهية إلا بين عبدته. وقد عبّر الشعب عن رفضه للحاكم المتأله بشعار بسيط هو شعار «الله أكبر». الطاغية كان يصر أنه هو الأكبر والأقوى والأذكى والأعلم، لكن الشعب صار يُذّكره كل حين بالحقيقة الفطرية التي يعرفها كل طفل، حتى قبل أن يبلغ سن الوعي والإدراك وهي «الله أكبر». الله أكبر من الطاغية ومني ومنك. وهذا سبب جنون رجالات السلطة، الذين ارتكز خطابهم على تأليه الحاكم وعبادة السلطة، وصولاً إلى خلق دين جديد يكون الحاكم ربه، فشعار «الله أكبر» أشبه بقذيفة مدفعية تدك أساس البنيان السلطوي فينهار. لذلك يعتبر الوثن والعبدة والعبيد وسدنة المعبد الوثني أن الشعب يعتدي عليهم بهذا الشعار، فيجن جنونهم ويفتحون نار بنادقهم ومدافعهم ليسكتوه. لكن هذا الشعار البسيط يتكرر من جديد فيصابون بمزيد من الجنون ويتقوض دينهم ويظهر ربُهم المزعوم على حقيقته: وثن صغير لا قيمة له أمام الإله الكبير..
كاتب سوري