لم يفارق الإحساس بالدهشة والذهول السوريين حتّى الآن، ولا أظنّه سيفارقهم قريباَ: فقد انهار ما كانوا يرونه نظاماً حديدياً مُصمتاً، خلال معركة سلسة استغرقت أحد عشر يوماً وحسب. تداعى نظام» الأخ الأكبر» كمبنى من ورق اللعب، أما عيون الشعب الذي ثار منذ مارس 2011، في ثورة جميلة بين الثورات ورائعة، انقضّ عليها بالدم والنار والدمار أمام عيون العالم. فهنيئاً للسوريين- كلّهم- بهذا الانتصار الذي حقق هدفاً لهم طالما نادوا به وهتفوا: الشعب يريد إسقاط النظام.
كانت «هيئة تحرير الشام» على رأس المنتصرين على الأرض، وهي التي كانت وما زالت المصنّفة إرهابية رغم تغيير اسمها وتركيبتها مراراً، من جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام وحتى الهيئة. لأنّها احتوت في نواتها على مقاتلين من أصول في» القاعدة»، مرّوا أيضاً – كما مرّ قائدهم- على» الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروفة اختصاراً باسم «داعش»، حتّى انشقاق «أبو محمد الجولاني» عنها في سوريا وتأسيسه لـ»النصرة»، ثمّ تملّصه من» القاعدة» بالتدريج.
منذ عام 2013، أصبحت محافظة إدلب معقل «الجبهة» ومقاتليها، بعقيدتهم القتالية المحكمة واستعدادهم للتضحية بحياتهم ببساطة، الأمر الذي كان يرعب أعداءهم. ثمّ تراكمت قوتها مع سقوط كلّ موقع معاٍد للنظام في البلاد، وفتح الخيار أمام آخر المقاتلين للانتقال إلى إدلب، في الحافلات الخضراء الشهيرة. بين أولئك، ورغم أنه كان بينهم الكثير من أمثال عبد الباسط الساروت ووئام بدرخان- أيقونات الثورة وقدّيسيها- كان بينهم مقاتلون أوصلهم العنف المستمر العاري إلى تخوم التطرّف أيضاً. قاومت» الهيئة» حصار النظام والروس والإيرانيين وقاتلتهم، وقاومت «التصنيف» في الوقت نفسه، حتّى ابتدأ قائدها بتغيير منهجه بالتدريج في العامين الأخيرين، ابتداءً بالمظاهر و»اليونيفورم» الجهادي، إلى مظاهر وظواهر أكثر مسالمةً وتكيّفاً. ابتدأت الأقنية مع الغرب أيضاً بالانفتاح الحذر والمتدرّج، لكنّ التصنيف استمرّ مسلطاً، وما زال قائماً حتّى الان. حمل ذلك المسار في تحوّلاته مشروع ما حدث في الأيّام الماضية لينتهي على شكل حرب صاعقة وانتصار باهر.
سقط النظام، وتلك خطوة عملاقة لا يمكن تحقيق التغيير السوري من دونها، ولكن» البناء» بعد ذلك صعب وتشوبه علامات تساؤل عديدة وكبيرة ومعقدة
الملاحظة المهمة الأولى على ذلك هي أن الهيئة استعدّت وحلفاءها جيّداً وطويلاً، حتّى قامت في الأشهر الأخيرة بتدريباتها العسكرية على العملية التي كانت ساعة الصفر لها في 27 نوفمبر. ويقول الروس والإيرانيون إنهم لاحظوا ذلك ونبّهوا الأسد، ولم يأخذ الأمر بشكل جدّي، لكنّهم هم أيضاً، وكما هو واضح في الأقوال والأفعال، لم يأخذوا الأمر بالجدية الكافية، وكلاهما كان منشغلاً بهمّه الخاص به:
الإيرانيون في دُوار بتأثير الوضع في غزّة ثمّ في لبنان، حيث حاقت الهزيمة بقوّتهم الخاصة الأّهمّ «حزب الله»، وتدهورت هيبتهم العسكرية هم ذاتهم أيضاً، تحت ضغط وضربات إسرائيل وحكومتها المتطرّفة. والروس كانوا من قبل قد سحبوا بعض قواتهم وأسلحتهم إلى الحرب الأوكرانية، ذات الأهمية الأولى. وما ظهرت نتائجه لاحقاً هو أن الطرفين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بحليفهم الذي تزايدت عنجهيته مع تزايد تفاهته، ومع استمرار اعتماده الكامل على هذين الطرفين، حتى صار جيشه وأجهزته الأمنية تُقاد مباشرة من قبلهما، وبتنافس وتنافر كانا يزدادان مع الزمن.
ذلك من أسباب انهيار النظام على الشكل غير المسبوق، ومن دون قتال عملياً أمام تقدم وحدات إدلب. ابتدأ ذلك في حلب، لكنّه ظهر في حماة، وأصبح فاضحاً في حمص ودمشق. ذاب النظام الحديدي وكأن حديده استحال ملحاً. وانكشفت عقود من الاستبداد والفساد نخراً في عظامه، فهَزم نفسه قبل أن يهزمه معارضوه.
لقد قدّم السوريون ومعارضتهم ألوف الشهداء والمعتقلين والمفقودين على مدى العقود الماضية، ولم يستطيعوا إسقاطه، إلّا أنهم أوصلوا النظام إلى الحالة المعزولة المفضوحة، التي جعلت العالم ينفض يده ويملّ منه.
كان لدرجة انضباط الهيئة وأفرادها أيضاً، وتدريبها المكثّف، وعقيدتها الفكرية والقتالية، دور في تحقيق تلك المهمة وبالطريقة التي حدثت بها. كما ظهر بوضوح أن هنالك درجة متقدّمة من التفاهم والتنسيق بين الهيئة والقوى الموجودة في الجنوب في درعا والسويداء والقنيطرة، التي تقدمت بدورها باتّجاه دمشق. ومن الطبيعي أن مثل ذلك قد حدث في شمال إدلب، مع تلك القوى المحسوبة مباشرة على تركيا، ولو أن الأخيرة تحرّكت تحت ضغط همومها بشكل خاص، المتعلّقة بحساسيّتها واستهدافها لقوات سوريا الديمقراطية والكرد فيها خصوصاً، لأسبابها المعروفة. تحرّكت تلك القوات ضدّ قسد في تل رفعت، ثمّ مالت شرقاً باتّجاه منبج وحتى شاطئ نهر الفرات. ظهر أيضاً تناغم آخر مع القوى التي توجد بجوار القاعدة الأمريكية في منطقة التنف على مثلث الحدود السورية ـ الأردنية – العراقية في الجنوب الشرقي، تحت ضغط همومها ضمن التحالف الدولي، المتعلّقة بخطر انبعاث «داعش»، وبقطع طريق الدعم الإيراني وتسليح وتذخير حزب الله من المصدر الإيراني. تحرّكت تلك القوى باتّجاه وسط البادية واحتلّت جبلاً يشرف على ما يحدث فيها. هذا وذاك أعطيا حماية لظهر الهيئة في انطلاقها شرقاً إلى حلب، ثم انحدارها كالسهم جنوباً باتّجاه دمشق.
في الساعات الأولى من يوم الثامن من ديسمبر وقبل الفجر، سقط النظام في دمشق، وأخذ العالم يبحث عن بشار الأسد فلا يراه، ليتبيّن أن الروس قد سحبوه بشكل منفرد إلى موسكو، وتفرق جمع الصف الأول من رجال النظام.
لم يظهر بشكل مباشر أيّ دور خارجي في ما حدث، ولكن مجمل التحليلات وبعض الدلائل تشير إلى الولايات المتّحدة أولاً، رغم انشغالها وطبيعة إدارتها الانتقالية: إنها تحقق بذلك تقليصاً استراتيجياً في النفوذ والوجود الروسيّ والإيراني، وتتخلّص من عبء وجود نظام أصبح فائضاً ومكروهاً. وفي الجانب الإيراني أيضاً، تستكمل إسرائيل عمليتها اللبنانية، أو الإيرانية بالأحرى، وتقطع شريان الحياة ما بين إيران وحزب الله، ليخسر الطرفان جزءاً مهماً من ميزاتهما وقدراتهما وسمعتهما. أما تركيّا التي ما انفكّت تنفي علاقتها بهيئة تحرير الشام، فالبعض يصدّق ذلك نسبياً، ويرى أن حكومة أردوغان قد ملّت من تذبذب الأسد وتمنّعه عن تلبية ما كانت تريده سلماً من عملية التطبيع معه، وفتح الطريق بينها وبين الخليج، فقامت بدورها أيضاً.
لقد سقط النظام، وتلك خطوة عملاقة لا يمكن تحقيق التغيير السوري من دونها، ولكن» البناء» بعد ذلك صعب وتشوبه علامات تساؤل عديدة وكبيرة ومعقدة. سوف يكون أولّها وأصعبها اقتناع «الطليعة الثورية» الطارئة والمظفّرة، بأن طرائقها المتوقّعة غير ملائمة للعصر، ولا لمتطلّبات الشعب السوريّ الذي اجتاز بحراً من العذابات حتى وصل إلى حيث هو الآن من دون جلّاديه.
من الضروري أوّلاً أن تتآلف السلطة المؤقتة الحالية مع خريطة الأمم المتّحدة التي صاغها المجتمع الدولي خلال سنوات من معالجته للقضية السورية. ابتدأ ذلك المسار بنقاط كوفي أنان الست، إلى بيان جنيف في يونيو2012، ثمّ قرار مجلس الأمن 2012، وبياني فيينا في أواخر 2015 حتى القرار 2254 الذي اعتدل قليلاً وزاد من إمكانيات التنفيذ. في هذا القرار وخلفياته المذكورة خطة طريق عامة لا بدّ من قبولها وبلورة خطواتها، ذلك امتحان.
هنالك ذلك الشرخ ما بين الهيئة والقوى السياسية الأخرى، الذي ينبغي تجسيره من خلال الحوار من دون تأخير، والمشاركة معها في تشكيل الحكومة الانتقالية، أو المجلس الانتقالي، أو هيئة الحكم الانتقالية، كما ينصّ بيان مؤتمر جنيف وما جاء بعده. لا بدّ أيضاً من فتح الأقنية مع مجموعة الاتّصال العربية التي تضمّ الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر، بالاشتراك مع المجموعة الدولية المصغرة المؤلفة من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، لاكتساب مزيد من الدعم لعملية الانتقال السياسي الشاملة وغير الطائفية؛ وتأمين مساهمة العرب والعالم في إعادة البناء، واستعادة البلاد من الماضي لوضعها على طريق المستقبل.. يبقى أن يجري قبول حقيقة الحاجة إلى الديمقراطية والمدنية والتعدّدية في الرأي والسياسة والثقافة والإثنية والديانات والمذاهب، وحقوق الإنسان.. والحريات الأساسية أولاً، بما فيها تلك المتعلّقة بحرية التعبير والتنظيم والعقيدة، وعودة السوريين إلى حقل السياسة والتأثير حتى تحقيق ما يرونه، أفراداً وجماعات. ولكن، لا شيء يهمّ، أمام مظاهرات خمس «مليونية» خضراء تملأ المدن السورية الخمس الأكبر. كلّ واحدة منها بحجم أكبر تظاهرة في ثورة العام الأول، تلك التي كانت في حماة..
كانت سوريا تعود يوم الجمعة الماضي إلى أهلها، يحسب الغريب أنها قد نسيت آلامها، أو أنها ترقص على ألحان آلامها، التي عاشتها في الوقت ذاته مع تحرير معتقلين كثر، وضياع مفقودين أكثر بكثير!
كاتب سوري