ماذا بعد غضب الجزائر من باريس؟

لن تقف الجزائر مكتوفة الأيدي، هذا ما تؤكده جرائدها وإذاعاتها وتلفزيوناتها. لكن ما الذي سيفعله الجزائريون بالضبط؟ وهل أن غضبهم من المستعمر السابق سيمتد ويطول، أم أنه سيكون عابرا وظرفيا؟ إن وسائل إعلامهم لم تكشف أي معلومات عن طبيعة الخطوة التالية، التي قد يقدمون عليها، في سياق ما قد يعتبرونه ردا طبيعيا ومشروعا على انتهاكات باريس للقواعد التي يفترض أن تحكم العلاقة بين الدولتين وأهمها، الاحترام المتبادل وعدم تدخل كل واحدة منهما في الشؤون الداخلية للأخرى، غير أنها رأت الصورة جلية وواضحة تماما. فالمخابرات الفرنسية كما كتبت صحيفة «الخبر» الأحد الماضي، تشن حربا على الجزائر ومصالحها. والدليل أن هناك اجتماعات عقدت داخل «المقرات الدبلوماسية الفرنسية في الجزائر» مع من وصفتهم بـ»عناصر معروفة بعدائها لمؤسسات الدولة»، وذلك كان يبدو وحده كافيا بنظر الصحيفة، حتى يكون واحدا من المبررات التي جعلت السلطات الجزائرية توجه تحذيرا لباريس، ودفعها هي لأن تكتب ومن جانبها وبالخط الأحمر والعريض وعلى صدر صفحتها الأولى، وفيما يشبه التهديد الواضح والصريح: «للصبر حدود».
أما على الطرف المقابل، فإن الفرنسيين يبدون قدرا كبيرا من الهدوء، ويحاولون الابتعاد عن أي رد فعل سريع، أو متشنج دون أن يفوتهم أن ينفوا مثل تلك الاتهامات، معتبرين أن «لا أساس لها من الصحة»، بل واصفينها بأنها «محض خيال»، مثلما فعل وزير خارجيتهم جان نويل بارو، في أول تعليق له على ما نشر في الصحافة الجزائرية، خلال مقابلة أجرتها معه إذاعة «فرانس أنتر» في اليوم نفسه.

الجزائريون يشعرون بالاستياء، ليس من الإليزيه، بل من جهة ما داخل النظام الفرنسي، يرون أنها تسعى للمس بالعلاقات الجزائرية الفرنسية وتقويضها

لكن الثابت وفي كلا الحالتين، أن الجزائريين يشعرون بالاستياء، ليس من الإليزيه، بل من جهة ما داخل النظام الفرنسي، يرون أنها تسعى للمس بالعلاقات الجزائرية الفرنسية وتقويضها، وهذا ما يبدو أنهم أبلغوا السفير الفرنسي على الأرجح به. وفي الواقع فإن مثل هذا الامر لا يبدو مفاجئا، أو جديدا حتى بالنسبة للفرنسيين أنفسهم. إذ أنه سبق للرئيس أيمانويل ماكرون، وفي عدة مناسبات، أن عبّر تقريبا عن المعنى نفسه وكان آخرها قبل أكثر من عام، حين تفجرت في ذلك الوقت ما عرفت بقضية تهريب الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي من تونس إلى فرنسا، فألقى باللائمة على ما وصفها «بالأطراف التي تسعى لإجهاض أي تقدم في العلاقات الجزائرية الفرنسية»، واعتبر أنها السبب في التوتر الذي حصل حينها في العلاقات بين البلدين، دون أن يمضي أبعد ويذكرها بالاسم. أما من تكون تلك الجهة الآن؟ فإن إشارة الإعلام الجزائري إلى المخابرات، قد تدل ولو بشكل غير مباشر على أن ما اصطلح على تسميتها بالدولة العميقة هي المقصودة بذلك. لكن ما الذي سمعه السفير الفرنسي من الجزائريين في تلك الجلسة بالذات؟ هل كان كل ما وجه له هو اللوم والتقريع؟ أم هل قدمت له وثائق وأدلة وبراهين ملموسة تثبت وبشكل قاطع وبات وبما لا يدع مجالا للشك أن بلاده قد تورطت في مؤامرة كبرى تستهدف الإضرار بأمن واستقرار الجزائر؟ لقد ترك لوسائل الإعلام المحلية أن تتحدث عن ذلك نقلا عن مصادر دبلوماسية غير معروفة دون أن تصدر الخارجية الجزائرية أي بيان رسمي حول فحوى ما دار في تلك المقابلة التي جرت على الأرجح قبل أسبوع من كشف الصحافة الجزائرية عنها. وكل ذلك لم يحدث بالطبع بشكل عفوي أو اعتباطي بالمرة، فالقصد منه قد يكون التلميح إلى أن الجزائر لا ترغب ورغم استيائها وغضبها الواضح في أن يؤدي التصعيد مع فرنسا في نهاية الأمر الى القطيعة التامة معها. والسؤال هو، هل سيتوقف الأمر إذن عند سقف ما؟ أم أن ستيفان روماتيه سيصبح وربما في غضون أسابيع وأشهر قليلة فقط شخصا غير مرغوب فيه في الجزائر، وسيدعى من جديد إلى مقر وزارة الخارجية الجزائرية، لإبلاغه هذه المرة بأن أمامه مهلة ثمان وأربعين ساعة فحسب، حتى يحزم حقائبه ويغادر نهائيا إلى باريس؟ لقد تلقى السفير الفرنسي الذي مضى بالكاد أقل من عام ونصف العام على تقديمه أوراق اعتماده للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون دعما من وزير خارجيته، كما أشار بارو، في حديثه إلى إذاعة «فرانس أنتر»، ولعله يستبعد الآن فرضية أن يطرد غدا من الجزائر. لكن سيكون من الصعب عليه أن يسقطها تماما من اعتباره. فهو يعلم جيدا أن الجزائريين غاضبون من بلاده، وأن علامات غضبهم أخذت في التزايد، وأنه لم يكن من باب الصدفة أن تنشر صحيفة «المجاهد» الحكومية الأحد الماضي، نقلا عن مصادر دبلوماسية وصفتها بالرفيعة، أن الخارجية الجزائرية، استدعت في وقت سابق روماتيه لإبلاغه «استياء الجزائر العميق ورفضها القاطع»، لما وصفته «بالأعمال العدائية الفرنسية المتكررة»، مضيفة أن هذا الاستدعاء «يمثل تحذيرا شديد اللهجة من الجزائر إلى باريس، في أعقاب الكشف عن تورط جهاز المخابرات الفرنسية في مخطط يهدف إلى زعزعة استقرار الجزائر»، وأن مصادرها أخبرتها أيضا أن «وزارة الخارجية الجزائرية عبرت عن رفضها التام لهذه التصرفات واعتبرت أنها تجاوزت كل حدود المعقول»، وأن «الجزائر لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه الانتهاكات، بل ستتخذ كل التدابير اللازمة لحماية سيادتها ومصالحها الوطنية». لكن هل سيكون ذلك بمثابة جرس إنذار حقيقي لما سيحصل في الأسابيع المقبلة، وهل سيتصاعد الغضب الجزائري ليصل إلى درجة الإعلان ومن جانب واحد عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا؟ أم أن الأزمة الصامتة التي تفجرت بين العاصمتين الجزائرية والفرنسية في يوليو الماضي، عندما بعث الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون رسالة إلى العاهل المغربي محمد السادس اعتبر فيها أن «حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يندرجان في إطار السيادة المغربية»، وهو ما رأت فيه الجزائر حينها، وحسب بيان لخارجيتها، إقداما من جانب الحكومة الفرنسية على «إعلان تأييدها القطعي والصريح للواقع الاستعماري المفروض فرضا في إقليم الصحراء الغربية»، ستنتهي كما انتهت الأزمة الجزائرية الإسبانية في وقت سابق بعودة السفير الجزائري إلى مدريد في نوفمبر من العام الماضي؟ ربما سيرتبط ذلك وبدرجة كبيرة بما سيفعله الفرنسيون في الشهور المقبلة في الملف الصحراوي، والطريقة التي سيترجمون بها أقوالهم حول الاعتراف بمغربية الصحراء، إلى أفعال من خلال مستويين اثنين هما المستوى الدبلوماسي عبر مواقفهم في مجلس الأمن، وتأثيرهم على مواقف دول الاتحاد الأوروبي من ذلك النزاع ثم المستوى الاقتصادي عبر انخراطهم بشكل واسع أو محدود في المشاريع الاستثمارية في الصحراء. لكنه لن ينفصل في كل الأحوال عن التحولات الإقليمية والدولية، التي قد تحصل في الشمال الافريقي. وهنا فإن ذهاب الجزائريين للحد الأقصى مع فرنسا يبدو مستبعدا حتى إن أكدت وسائل إعلامهم على أنهم لن يبقوا مكتوفي الأيدي.
كاتب وصحافي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية