رواية «النباتية»… رسائل هان كانغ

يتأتى الحكم على قيمة أي رواية بفعل عوامل عدة، أهمها تفاعل القارئ الذي يستجلي إحساسه بالنص، ومدى تحقق الوعي المتوقع الذي يعقبه إدراك دلالي، وفي رواية «النباتية» للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ – حازت جائزة نوبل 2024 – ثمة الكثير من هذا النمط الذي يبدأ بالإحساس في النص، ومن ثم يتشكل الوعي بالمقاصد والرسائل ليصل إلى حالة الإدراك.

القرار
تنهض الرواية على افتتاحية تصور امرأة عادية اسمها «يونغ هي» تقرر فجأة التوقف عن تناول اللحوم، بعد سلسلة من الكوابيس المزعجة التي تؤدي بدورها إلى تغييرات جذرية في حياتها، ولاسيما علاقاتها الأسرية والاجتماعية، غير أنّ هذه التغيرات تقود إلى أسئلة ذات طابع فلسفي لا تتولد فجأة، إنما تتبلور مع تقدمنا في قراءة الرواية التي تُقسّم إلى ثلاثة أجزاء، يروي كل منها شخصية مختلفة: زوج «يونغ هي»، وزوج أختها، وأختها الكبرى. يُسلّط كل جزء الضوء على تأثير قرار «يونغ هي» على حياتها، وحياة من حولها ضمن فعل يعتني بتوصيف تداعيات هذا القرار، الذي لا نتوقع أن يقود إلى مآلات غريبة، أو صادمة، من منطلق أن القيمة لا تتحقق بالأثر فحسب، إنما بما يكمن خلف ذلك من أسباب ورؤى، ونعني معرفة الذات، وتعالقها مع المجتمع، وتموضع كل منهما في فهم الحدود الفاصلة بينهما، وما تؤطره هذه العلاقة من تراكمات تتصل بالخيارات التي نتخذها في حياتنا.
لا يمكن إلا أن نتلمس الثيمة المباشرة للعمل، التي تؤطر بفكرة التمرد على القيود المجتمعية، من منطلق أن قرار «يونغ هي» بالتوقف عن تناول اللحوم يعني تمردا على التوقعات والقيود التي يفرضها المجتمع والأسرة، ما يقودنا إلى إدراك الصراع بين الفرد من جهة والمعايير الاجتماعية من جهة أخرى، ولكن هذا القرار- في النهاية- يبقى فعلاً تمهيدياً ضمن قراءة الظاهر على مستوى السرد، فدوافع القرار تتوجه إلى مركز الحساسية في تشكيل مستوى آخر من البنية الدلالية، التي نؤطرها بمقولتي الهوية والتحول، ولاسيما حين تستكشف الرواية رحلة امرأة تبحث عن ماهيتها الحقيقية، عبر التحرر من القيود المفروضة عليها، ما يؤدي إلى تحول جذري في تكوينها وسلوكها، وكلاهما يُبنى على وعي بمحيط (آخر) لا يفكر فيه الإنسان العادي عادة، ونعني المحيط أو البيئة التي نعيش فيها، ولا نعني المجتمع والإنسان فحسب إنما الوجود الكلي؛ بما في ذلك البيئة أو الطبيعة والحيوان، وما يكمن في هذه المستويات كافة من عنف أو قمع يمارس عليها.
وإذا ما تجاوزنا العنف المباشر تجاه الذات الإنسانية، سواء أكان الجسدي أم النفسي الذي تتعرض له «يونغ هي» من قبل زوجها ووالدها بداعي قرار خروجها عن المألوف، فإن هذا القرار – حقيقة – يتعلق بحرية ما تريد، انطلاقاً من علاقتها مع جسدها، وتموضعه في الطبيعة أو الوجود، حيث الروح التي تكمن في الأشياء، بما في ذلك روح «يونغ هي» عينها، وتواصلها مع الشجر، والهواء ضمن مبدأ المزج، أو الاندماج بين هذه المكونات في تكوين واحد، ومن هنا فقد حاولت «النباتية» الارتقاء إلى ماهية أعلى، على الرغم من أنّ هذا القرار قد يبدو أقرب إلى رغبة عميقة في الانسحاب من عالم مادي، للتوجه إلى وجود أكثر نقاء، غير أنه ـ من منظور محيطها – قد يؤدي إلى العزلة والهلاك على مستوى الجسد الذي يبدو ثانوياً من وجهة نظر «النباتية».
على الرغم من عدم وضوح هذا المستوى، غير أن الرواية تنطوي على تمثيل لنسق ثقافة الاستهلاك، وتعالي قيم العالم المادي. فقرار «يونغ هي» بالامتناع عن تناول اللحوم يمكن قراءته بوصفه رمزاً لرفض المشاركة في منظومة استهلاكية تستنزف الكائن الحي، وتحويله إلى سلعة، بالتوازي مع إدراك أن كل ما في الكون ينطوي على روح، وغالباً ما نتناسى هذا أو نتجاهله، ومن هنا نرى تمثيلاً لعملية تعذيب الحيوان «الكلب»، ومن ثم أكله في تمثيل ينطوي على قدر كبير من العنف، بغية خلق خضة نفسية للذات التي لا تتمكن من استجلاء تداعيات أفعالها؛ نظراً لمبدأ الاعتياد تجاه باقي الكائنات الأخرى، بما في ذلك الحيوان، كما الطبيعة أو البيئة وسلبها ماهيته الروحية.
لا يمكن إنكار أنّ الرواية حملت لغة مكثفة ومشحونة بالدلالات الرمزية، حيث تمكنت الترجمة الموفقة لمحمود عبد الغفار من المحافظة على روح النص، وحساسيته، فقد نجحت اللغة في تمثّل إشكالية الجسد، الذي أمسى مساحة سردية تستدعي قراءات متعددة منها، أن الجسد يقف على نقيض الروح في وعي البعض، لكن المرأة «النباتية» ترى أن جسدها جزء من الطبيعة فسعت إلى التخفف من الثياب، والرغبة الجنسية، والمنظومة التي تتعامل معه، أو نعني الثقافة المادية من خلال تجاوز القوالب التقليدية. فالجسد قد يبدو كياناً يعبّر عن الجمال، ويتحقق ذلك عبر عملية دمج الطبيعة مع الجسد، في فعل يمثل استعادة نقاء في مواجهة النمط التقليدي أو المادي، ومن هنا ربما نفسر انبعاث الرغبة لدى «يونغ هي» للتواصل الجسدي مع زوج أختها لا من منطلق مادي، أو جنسي، إنما يتأتى نتيجة أثر الرسومات على الجسدين، فالأزهار هي التي حفّزت فعل التواصل الجنسي بفعل الطبيعة، وليس هدفاً بذاته.

المنظور النسوي
لا يمكن قراءة رواية «النباتية» بمعزل عن سياقها الثقافي والاجتماعي، إذ تقدم الرواية نقدًا غير مباشر للنظام الأبوي «البطريركي»، كما القيم المجتمعية الصارمة التي تفرض أدوارا محددة على الأفراد أو لنقل فهماً لذاتنا بمعزل عن التأملات التي يمكن أن تقود إلى فهم مغاير، فعلى سبيل المثال قد تمضي حياتنا في اغتراب عميق عن حقيقتنا، كما عن مجتمعنا، من مبدأ أن للتقاليد والموروثات -شأنه شأن أي مجتمع آخر – دورا محوريا في تشكيل بنية العلاقات الإنسانية، إذ يُنظر إلى الفرد غالبا من خلال انتمائه للأسرة، والمجتمع، ما يجعل أي خروج عن المعايير السائدة، تمردا أو تهديدا للانسجام الاجتماعي؛ ولهذا نرى محاولة الزوج تفسير قرار زوجته التوقف عن تناول اللحوم بوصفه انتهاكاً للطبيعة البشرية، والواقع، فهو يرى أن تناول اللحوم غريزة جوهرية في الطبيعة البشرية، وبناء عليه يخلص إلى أن زوجته غير طبيعية.
على الرغم من أن قرار «يونغ هي» بالتوقف عن أكل اللحوم قد يبدو بسيطا وذاتياً في سياقات أخرى، بيد أنه يكتسب طابعا صداميا في مجتمع يُقدّر الطاعة والامتثال، ولاسيما في سياق الأسرة، التي تُعدُّ حجر الأساس للحياة الاجتماعية في كوريا الجنوبية، مع أن قرار المرأة ينطوي على فلسفة أعمق مما نتوقع، وليس نتيجة قناعات بسيطة أو مسطحة. ضمن سياق النزعة المتعالية تحضر الذات النسوية (المقهورة) مقابل نماذج ذكورية سلبية، فالمرأة النباتية «يونغ هي»، وشقيقتها، كما أمهما بسلبيتها، وغيابها الفعلي والرمزي عن محاولة التأثير، بل انصياعها شبه الكلي لزوجها والد «يونغ هي» على أنه يمثل نموذجاً للاستسلام المطلق، وبذلك فإن هذه الشخصيات تحيل إلى نماذج مقهورة تعاني من قمع ذكوري، فوالد «يونغ هي» يمارس العنف الجسدي على ابنته منذ طفولتها، ومن ثم يجبرها على أكل اللحم بالقوة، بينما زوجها يلجأ إلى تحييدها، وتجاهلها، بينما زوج شقيقتها يستغلها جنسياً، وفنياً. ما سبق قد يفسر فهماً أعمق تجاه قرارات المرأة التي تتبنى رفضا رمزيا لكل أشكال القمع، علاوة على هياكل السيطرة التقليدية، بيد أن الفرق حقيقة يكمن في الأطر، أو السياقات: ومن ذلك العلاقة الزوجية، كما الأسرة، وأخيراً المجتمع برمته، وبذلك فإن أزمة «يونغ هي» ليست سوى نتاج تراكم ممارسات قمعية اختبرتها منذ طفولتها وصولاً إلى كونها امرأة متزوجة.
تمتثل شخصية أخت «يونغ هي» بوصفها اختزالاً لأزمة المرأة (عامة) التي تجد نفسها عالقة بين الأدوار التقليدية المفروضة عليها، وتطلعاتها الذاتية، كما رغباتها المكبوتة نتيجة التزامها بأدوار محددة، ومن ذلك مسؤولياتها الأسرية والمجتمعية، غير أن ذلك يتكشف بعد ذلك عن شروخ عميقة نتيجة قلق المحيط، وما يعنيه من اغتراب بعد أن تعي ما يكمن خلف قرار شقيقتها «يونغ هي» بحيث تكون نقطة تحول لتدرك أنها على النقيض من شقيقتها؛ فهي النموذج الذي اختار الامتثال للمجتمع، بينما اختارت أختها التمرد، ومع ذلك تبقى الشقيقة مسكونة بالمسؤولية تجاه أختها (النباتية) التي تعني لها رمزاً للمقاومة، ورفض الخضوع.
بخصوص زوج شقيقتها الكبرى (الفنان المصور) وسعيه المحموم لاستغلال جسد «يونغ هي»، فهو لا يخرج عن إطار النقد للقيم المادية، على الرغم من أنها جاءت مقنّعة بقناع الفن، الذي ربما يتحول أحيانا إلى وسيلة للهيمنة بدلا من أن يكون أداة للتحرر والتعبير. إن استغلال الفنان لجسد الشقيقة، ووعيه بذاته فقط، بمعزل عن عوالم زوجته، يبقى جزءاً من منظومة تتحكم فيها الثقافة الذكورية، التي تبدو عاجزة عن إدراك محيطها، أو الشريك، فزوجا الشقيقتين فشلا في إدراك حقائق تتجاوز البعد المادي، فقط كان هنالك الحرص على وجودهما المعني بموقعهما: الأول عمله وحاجته الجسدية، والثاني فنه، وشهوته المنحرفة.

الحرية
إن كل ما سبق ينطوي على دلالات عميقة تعني قيمة العودة إلى الأصل والطبيعة، فالأشجار تعني حقيقة رمز التجذر، كما أيضاً تركز غلى التجدد، والاستمرارية، وبذلك يمكن تفسير رغبة ارتباط «يونغ هي» بالأشجار في نهاية الرواية بوصفها رغبة عميقة في التحرر والانصهار مع الطبيعة بعيدا عن قيود الجسد البشري والتوقعات الاجتماعية. إن الأمر في النهاية يتعلق بحريتها كما توصلت شقيقتها لهذا (أخيراً) حين قالت: «إنه جسدك افعلي به ما يحلو لك. إنه الشيء الوحيد الذي يمكنك التصرف فيه على هواك. ولكنه مع ذلك لا يؤدي بك إلى ما ترغبين فيه»، وبذلك فإن محاولة إكراه «يونغ هي» على تناول الطعام بالحقن أو الأنبوب في المستشفى يعد انتهاكاً لخياراتها، أو حريتها، فمحاولة الإخضاع ينطلق من فهم خاص بالمحيط، وعند التمرد فإن الحل الأسهل المسارعة إلى نعت الشخص المتمرد بالجنون أو المرض النفسي، في حين أن منظور «النباتية» يتعالى فوق ذلك، فهي ترى أنها جزء من دورة الحياة التي تبنى على التحرر الحقيقي، ولا يكون إلا بالانفصال عن النظام المادي الاجتماعي (الثقافي) مقابل الاندماج مع فضاء أكثر أصالة، وطبيعية، فهل ذلك يعدّ هذا الفعل خلاصاً لحقيقة الوجود؟ أم مهرباً ضمن سياقية تأويلية شديدة العمق.
كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية