بالإجمال، أراد ترامب مجاملة تركيا. “أعتقد أن تركيا ذكية جداً”، قال. “لقد نفذت سيطرة غير ودية (على سوريا) دون المس بأشخاص كثيرين”. قالها الرئيس المنتخب الإثنين الماضي مستخدماً مفاهيم من عالم الأعمال. ولكن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، لم يتحمس لهذه المقارنة. في مقابلة مع قناة “الجزيرة”، قال إنه “سيكون من الخطأ اعتبار الثورة “سيطرة غير ودية”. إذا كانت هناك سيطرة فهي سيطرة إرادة الشعب السوري”.
إصرار فيدان على الدقة الدلالية في محله. ولم يكن ترامب هذه المرة دقيقاً تماماً. تركيا تنفذ عملية سيطرة، لكنها ودية بالتأكيد. على سبيل المثال، يتضح هذا من مقابلة أجراها أحمد الشرع، زعيم تنظيم المتمردين “هيئة تحرير الشام” مع الصحيفة التركية المؤيدة للحكومة “يني شفق”. في هذه المقابلة، رسم الشرع شبكة العلاقات التي يتوقع نسجها بين سوريا بقيادته مع تركيا. “تركيا، التي قدمت الملجأ لملايين اللاجئين السوريين أثناء الحرب الأهلية، ستكون لها أولوية في إعادة إعمار سوريا”، وأضاف: “نؤمن بأن تركيا ستشاركنا التجربة التي راكمتها في تطويرها للاقتصاد… فهذا النصر ليس من أجل الشعب السوري فحسب، بل أيضاً من أجل الشعب التركي، لأن هذا هو نصر المضطهدين على مضطهديهم”. ما هكذا تبدو السيطرة غير الودية.
الرئيس التركي، أردوغان، لا يضيع وقتاً في الطريق إلى تحويل سوريا إلى دولة حماية تركية. في سلوكه، يذكر بالطريقة التي فرضت فيها إيران حمايتها على العراق بعد فترة قصيرة على إسقاط صدام حسين تحت أنف الإدارة الأمريكية. استراتيجية أردوغان تعتمد على ساقين: الأولى، إقامة غلاف خارجي يؤيد ويساعد النظام السوري على الصعيد السياسي والاقتصادي والدولي. والثانية، تعزيز اعتماد مراكز القوة المحلية على أنقرة.
الثلاثاء الماضي، استضاف أردوغان حاكم قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وتناقشا في التعاون بين الدولتين، بالأساس تمويل وإعادة إعمار سوريا. قطر وتركيا شريكتان مخضرمتان في كل ما يتعلق بـ “المشاريع” السياسية في الشرق الأوسط. مثلاً عندما فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر في 2017 حصاراً اقتصادياً على قطر، قامت تركيا بمساعدتها على تجاوز العقوبات عن طريق تأسيس قطار جوي (بالتعاون مع إيران). ولتركيا قاعدة عسكرية كبيرة في قطر، تشمل 3 آلاف جندي وسرب طائرات إف16 في إطار اتفاق التعاون الأمني بين الدولتين. وإذا لم يكن هذا كافياً فقد عملت تركيا وقطر معاً في ليبيا أيضاً، إلى جانب الحكومة المنتخبة هناك ضد طموحات الجنرال الانفصالي المدعوم من مصر والإمارات وروسيا. تركيا أرسلت السلاح إلى ليبيا والمدربين العسكريين إضافة إلى الجنود العاديين. وقطر من ناحيتها مولت عدداً من هذه النشاطات، وحتى الآن ما زالت تمول الحكومة المعترف بها.
ثمة علاقات وثيقة لتركيا أو قطر مع حماس وإيران. قطر شريكة إيران في حقل الغاز الضخم في الخليج الفارسي؛ وفي الوقت نفسه، إيران تبيع الغاز لتركيا عبر أنبوب يمر في هاتين الدولتين. الآن كما يبدو، جاء دور سوريا للاندماج في هذا المشروع التجاري الضخم. في العام 2009 تناقشوا حول خطة لإقامة أنبوب غاز يربط بين قطر وتركيا، لكن هذا المشروع نزل عن الأجندة بسبب معارضة سوريا، التي كان يجب أن يمر هذا الأنبوب عبرها، ولأن المشروع لم يكن اقتصادياً.
بعد ذلك، تغيرت الظروف في العالم. فأوروبا قلصت كمية الغاز الذي تشتريه من روسيا، وحتى إنها تتطلع إلى تقليصها أكثر؛ ألمانيا وقعت على اتفاق لشراء الغاز السائل من قطر. وإن أنبوب الغاز من قطر إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، يمكن أن تكون له جدوى اقتصادية لم تكن موجودة في 2009. بدأ المشروع في التشكل فعلياً، على الأقل في أوراق العمل، وفي الوقت نفسه يصبح اعتماد “سوريا الجديدة” على تركيا أكبر.
أردوغان لا ينوي التنازل عن هذه الفرصة الاقتصادية التي قد تجسد حلم تركيا في التحول إلى مركز تسويق الغاز إلى أوروبا. ولكن المنافسة على قلب الشرع كبيرة. ففرنسا فتحت سفارتها في دمشق من جديد، وبدأ الاتحاد الأوروبي في مناقشة رفع العقوبات عن سوريا وإلغاء اعتبار تنظيم الشرع تنظيماً إرهابياً.
وللحفاظ على “الحصرية” وتجسيد تفضيل تركيا من أجل إعمار سوريا، ربط أردوغان أطراف خيوط أخرى من بينها لبنان. الثلاثاء هبط رئيس حكومة لبنان نجيب ميقاتي في أنقرة لمناقشة الوضع في الشرق الأوسط، حسب البيان الرسمي. في المؤتمر الصحافي الذي عقداه وعد أردوغان بـ “القيام بدوره” لجعل إسرائيل توقف خرق وقف إطلاق النار. للبنان مصلحة كبيرة في إعادة مليون لاجئ سوري إلى سوريا. ومثل أي موضوع يتعلق بسوريا، لا يحرص أردوغان فحسب على أن يكون في الصورة، بل أراد توضيح أنه العنوان الذي سيتم نقل من خلاله الرسائل إلى أحمد الشرع.
لبنان يستعد لانتخاب رئيس جديد. وكان اللقاء بين ميقاتي وأردوغان فرصة ممتازة لرئيس تركيا ولخص التطورات السياسية في بيروت. يصعب التنبؤ إذا كان البرلمان في لبنان سيعقد في موعده المخطط في 9 كانون الثاني. ناهيك عن أنه يصعب التقدير إذا كان البرلمان سينجح في تجنيد الأغلبية لتعيين المرشح المتفق عليه. على أي حال، إذا كان لبنان يتطلع إلى تسوية أموره مع سوريا ووضع علاقاته مع دمشق على أسس ثابتة، فمن الأفضل له تجنيد أردوغان إلى جانبه.
الزعيم الدرزي – اللبناني وليد جنبلاط، يتوقع أن يصل إلى دمشق على رأس بعثة كبيرة كي يهنئ الزعيم السوري الجديد شخصياً. والد جنبلاط هو من أسس الحزب الاشتراكي التقدمي في لبنان، وكما يبدو، فقد قتل على يد عملاء لحافظ الأسد في 1977 (رغم أن التحقيق لم يعرض أي أدلة قاطعة على ذلك). بالنسبة لجنبلاط، فإن مصافحة الذي أقصى نجل قاتل والده، ستكون بمثابة إغلاق دائرة تاريخية. باختصار، لجنبلاط مصلحة أيضاً في ضمان سلامة الدروز في سوريا وإقامة شبكة علاقات جديدة بين الدروز في لبنان والقيادة الجديدة في سوريا. وحسب عدة تقارير من لبنان، يتوقع أن “يمر جنبلاط في تركيا بدعوة من أردوغان قبل وصوله إلى دمشق”.
أنقرة تنتظر المقابل
بدرجة معينة، لا تنوي تركيا الاكتفاء بالاحتضان السياسي الذي يقدمه الشرع. ففي بداية الأسبوع، قال وزير الدفاع التركي، يشار غولر، بأن “تركيا مستعدة لتقديم مساعدات عسكرية لسوريا إذا طلب منها ذلك”. ورغم أنه لم يفسر نوع المساعدات، فإن مصدراً سياسياً في المعارضة التركية، تحدث مع “هآرتس”، قدر أن أنقرة قد تكون المزودة الرئيسية للمعدات القتالية المختلفة من إنتاجها لسوريا. وقدر هذا المصدر بأن تركيا يمكنها إرسال مدربين ومهنيين من أجل تدريب الجيش الجديد، وبناء نظرية قتالية تناسب هذه الدولة، وتعطي الاعتماد المالي لتمويل هذه النشاطات.
لكن يجب الإشارة إلى أن تركيا ليست جمعية خيرية، وهذه المساعدة ليست تعبيراً عن موجة إحسان. مقابل السخاء، ربما تطالب تركيا بإقامة حلف عسكري واستراتيجي مع النظام الجديد في سوريا، حلف يضمن مكانتها ويحوي تأثيرها في كل العمليات العسكرية والسياسية لسوريا، وربما حتى السماح لها بإبقاء قواتها على الأراضي السورية والاحتفاظ بالمناطق التي احتلتها. من يدرك معنى ونتائج الحلف بين تركيا وسوريا هي موسكو، التي بدأت في النقاش مع تركيا وليس مع سوريا حول مستقبل ممتلكاتها، وبالأساس قاعدة سلاح الجو حميميم وقاعدة سلاح البحرية في طرطوس. إسرائيل من ناحيتها تتوقع أن تركيا ستبدأ في فترة قصيرة بخطوات دولية لإبعاد قوات الجيش الإسرائيلي من المناطق الجديدة التي غزاها الجيش الإسرائيلي في هضبة الجولان.
أمور مثل بناء جيش وشرطة وجهاز مخابرات، ووضع أهداف عسكرية، لم يتم طرحها على جدول الأعمال العام في سوريا حتى الآن. ينشغل الشرع الآن في تهدئة المجتمع الدولي والأقليات في سوريا إزاء الشكوك المكشوفة التي بحسبها يدور الحديث عن نظام قد يكون إسلامياً متطرفاً. أحد الذين ألمحوا لهذه التخوفات هو وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الذي ذكر منذ فترة قصيرة بأن “طالبان” أيضاً كانت تظهر جيدة قبل السيطرة على الحكم. ولكن التصريحات المتساهلة للشرع والمقابلات التي أكد فيها القلق على حقوق الإنسان ومكانة الأقليات، لا يمكنها طمس التحدي الأصعب الذي يواجهه، وهو التوحيد. يجب على الشرع توحيد المليشيات القطرية والمحلية والعصابات وأبناء القبائل المسلحة، في جسم عسكري واحد يخضع للقيادة السياسية العليا. سيحتاج الشرع إلى مساعدة تركيا كي توافق على إخضاع “جيش سوريا الحر”، وهو تجمع المليشيات الأكبر الذي يعمل برعايتها وخضع لأوامر أنقرة، لجيش سوريا الجديد. على الجيش السوري أن يشمل أيضاً مليشيا هيئة تحرير الشام، التي ستضطر للتنازل عن مكانتها المتميزة والاندماج في الجيش الجديد. أعلن الشرع في الأيام الأولى بأنه سيكون مستعداً لنزع سلاح المليشيا الخاضعة لتشكيل جيش سوري. ولكن لا يقين بأن هذه المليشيا التي لا تتكون جميعها من جسم واحد، ستوافق بإرادة وتفهم تفكيكها، أو التنازل عن مكانتها المميزة.
مسألة بنية وأهداف الجيش السوري الجديد جزء من التحدي. والسؤال المطروح الآن هو عن مكانة القوات الكردية المسلحة التي تدير تركيا الحرب ضدها منذ فترة طويلة. أنقرة تهدد بتوسيع غزوها للأراضي السورية لإبعاد القوات الكردية عن مناطق شرقي نهر الفرات، وذلك بعد أن طردتها من مدن رئيسية غربي النهر. وقف إطلاق النار بين مليشيا “جيش سوريا الحر” والقوات التركية الذي أعلن عنه في بداية الأسبوع، سينتهي في نهاية الأسبوع، وإذا لم يتم تمديده فستنفذ تركيا تهديدها.
زعيم القوات الكردية، مظلوم عبادي، اقترح هذا الأسبوع إقامة “مناطق منزوعة السلاح على طول جزء من الحدود بين سوريا وتركيا”. وحسب قوله، فإنه مستعد لتوحيد القوات الكردية مع الجيش السوري الجديد عند تشكيله. ومشكوك فيه إذا كانت هذه الخطوة كافية لتركيا، لا سيما أنه لم يتم تشكيل الجيش السوري الجديد حتى الآن، ومستوى سيطرة الشرع على كل أرجاء سوريا والمليشيات المسلحة لم تثبت بعد. ولكن تركيا غير مستعجلة في الذهاب إلى أي مكان. ومقارنة مع إسرائيل، ليس عليها أي ضغط دولي يطلب منها الانسحاب.
تسفي برئيل
هآرتس 20/12/2024