يُجمع الوسط الفني كله بكُتابه ومخرجيه ونجومه ونُقادة على موهبة نبيل الحلفاوي الصادقة وكارزميته القوية المتجاوزة بكثير حدود أدواره الثانوية والبطولات الثانية، التي كانت مُتاحة له في المسرح والسينما والدراما التلفزيونية. لقد أثبت الفنان الراحل جدارته الفنية والإبداعية في مُعظم ما قدم من أدوار بكل نوعياتها ومستوياتها واختلاف أنماطها، فمن محمود القُبطان في فيلم «الطريق» إلى «إيلات» مع عزت العلايلي والمخرجة إنعام محمد علي، إلى نديم قلب الأسد في مسلسل «رأفت الهجان» كان التميز حليفه والتمايز سمته الأساسية في الأداء، فليس لديه من الأعمال ما يتشابه لا في الموضوع ولا في الشكل، ولا في فلسفة الدور الذي يضطلع بتجسيده كمُمثل مُحترف يمتلك قُدرات وطاقات مُتعددة القوى والأبعاد والمزايا. نبيل الحلفاوي هو ابن المدرسة المسرحية، بسماتها وصفاتها وتميزها وتاريخها الفني العريق، فهو المُنضبط المُستقيم الواعي باختياراته وأهدافه ورسالته، لا يوجد في سيرته ومسيرته دوراً عشوائياً ولا شخصية ضعيفة يبعث أداؤها على السخرية، بل اعتمد الجدية في كل ما قدمه وطرحه من نماذج عكست ثقافته الحقيقية ووقوفه عند مسؤولياته بكل وقار واحترام. قدم على المسرح القومي عبر مراحل متوالية عدداً من المسرحيات المهمة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، كان من بينها مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» ومسرحية «الزير سالم» ومسرحية «رجل في القلعة» ومسرحية «طقوس الإشارات والتحولات».
كان نبوغ الحلفاوي مُبكراً في تلك المراحل الخصبة من عمر الإبداع المسرحي المصري، لكن شيئاً ما عطل نجوميته، ربما تدقيقه الزائد عن الحد في ما كان يُعرض عليه من أعمال وأدوار، ما جعل المُنتجين والمخرجين في حينه يهابونه ويخشون ملاحظاته الدقيقة، التي لا تُناسب أفكارهم واتجاهاتهم في بعض الأحيان كونها تكشف ميلهم للتجارية البحتة والرغبة في اتباع أهواء شريحة معينة من الجمهور، الذي يبحث فقط عن التسلية. ورغم التسليم بموهبة الفنان الكبير، إلا أن قُدراته لم تُستثمر كما ينبغي ولم يوضع الرجل المُبدع في المكانة اللائقة به فنياً، إلا في مرات قليلة وفي أدوار معينة، فعلى سبيل المثال لم تُمنح فرصة البطولة المُطلقة لنبيل الحلفاوي في السينما أو المسرح أو التلفزيون، إلا بالمُشاركة مع فنان آخر، فقد قدم على سبيل المثال دوراً سينمائياً بارزاً في فيلم «العميل رقم 13» مع محمد صبحي. ورغم سطحية المُعالجة الدرامية الكوميدية ونمطية أداء البطل الرئيسي، استطاع نبيل الحلفاوي وهو البطل الثاني أن يتفوق تفوقاً ملحوظاً على منافسه، ويُحدد للشخصية التي جسدها مساراً جاداً قوياً للغاية بعيداً عن المسار الكوميدي الخفيف المُثير للضحك والسخرية معاً.
وفي مُعظم الأفلام التي جسد فيها المُمثل الكبير دور الضابط كان مُتغلباً في أدائه على البطل الرئيسي، لتمكنه من الإمساك بتفاصيل الشخصية ووعيه بأبعادها المُختلفة، فليس كل الضُباط ينتمون إلى نمط واحد في التفكير والسلوك وهذا ما كان يعيه الفنان الراحل جيداً، لذا حرص على تسجيل الفروق الفردية والشخصية والثقافية والمهنية، بين نوعيات الضُباط، فضابط المباحث يختلف تماماً عن ضابط المخابرات وضابط المخابرات يختلف بكل تأكيد عن ضابط الجيش، حيث لكل منهم سمات وصفات وخصائص أوضحها صاحب الموهبة الفذة بكل بساطة، وبتمكن منقطع النظير.
في فيلم «الهروب إلى القمة» مع نور الشريف وإلهام شاهين والمخرج عادل الأعصر، قدم الحلفاوي دور ضابط مباحث بشكل وطبيعة مختلفة، فقد كان يبحث عن المجرم لأسباب شخصية، لهذا اختلفت طريقة الأداء ودرجات الانفعال، ومن ثم النظرات والإيماءات والحركات، وهو ما يمكن اعتباره درساً من دروس الأداء التمثيلي النوعي أعطاه الفنان القدير لمن يأتي بعده ليُجسد الدور نفسه. في الأدوار التلفزيونية برع نبيل الحلفاوي في تجسيد شخصية الرجل الجنوبي، صعب المراس، المُتمسك بالعادات والتقاليد، كما كان دوره في مسلسل «غوايش» مع صفاء أبو السعود وفاروق الفيشاوي وأحمد راتب، وهو الدور الأكثر شعبية وجماهيرية، وسر ارتباط الفنان بهذه النوعية الدرامية «معلى قانون» العُمدة الحاسم الحازم القوي صاحب السطوة والنفوذ والحاد في طباعه وقراراته المُنفردة والقاسية.
كان في ذلك الدور المهم إشارة بليغة إلى عيوب الحُكم الشمولي وعواقب الاستبداد بالرأي، ولم يخل الدور نفسه من التوصية بضرورة تطبيق الديمقراطية كمبدأ أصيل من مبادئ التقدم والاستقرار المُجتمعي، وإقرار العدالة كقاسم مُشترك بين كل الفئات والطبقات. هذا ما تضمنه المسلسل وأنبأت به شخصية البطل الدرامي «معلى قانون» الذي تحكم في قرارات أبيه عبد البديع العربي، العُمدة الأكبر وتحدى مشاعر أمه (زوزو نبيل) وعواطفها، واضطهد شقيقة الأصغر «حسنين» (فاروق الفيشاوي) عندما تزوج من الغازية «غوايش» (صفاء أبو السعود) التي كانت سبباً مباشراً في هدم الأسرة وإحداث شقاق بين الأخوين. لقد أشار المضمون الدرامي أيضاً إلى المساوئ المُترتبة على عملية الانفراد بالحكم والاستبداد بالرأي وغياب الديمقراطية، وتأثير كل ذلك على مسير الشعوب ومستقبلها، وكان المسلسل الذي أنتج عام 1986 بمثابة جرس إنذار مُبكر للتحذير من مغبة القمع والتسلط وعدم إعمال القانون وتطبيقه بشكل كامل، كشرط أساسي من شروط النمو والتقدم والاستقرار.
لقد طغت ثقافة الفنان الراحل نبيل الحلفاوي الذي توفي عن عمر ناهز 77 عاماً على مُعظم أدواره، فبدت شديدة التميز وكأنها من بنات أفكاره ومن صنع خياله، إذ صادف أغلبها هواه الشخصي ورؤيته العامة لما يدور حوله من صراعات ومُشكلات وقضايا تبحث جميعها عن حلول.
كاتب مصري