اختراق الحدود
لا يخفى على أحدٍ ما لمفهوم النوع الأدبي Genre Littéraire من أهمية في تنظيم حقل الأدب، فهو يفيد الدارسين وطلبة الأدب في تصنيف الأعمال وإعادة تجميعها في مختلف مقولاتها، تبعا لثوابت أو معايير مُحدَّدة حرصت نظرية الأنواع الأدبية منذ بدايات القرن العشرين على إقرارها والالتزام بها. وإذا كانت هذه الثوابت هي التي تُحدِّد هُويَّة النوع بعد أن تكون قد استقرّت عبر فترة طويلة، فإنَّ هذا لا يمنع النوع من أن يمتلك حقلا غنيّا من الإمكانات المتنوعة والمتغيرة وحتى المتعارضة، وهو ما كان يُسهم في عملية خلق البنية وتنويعها واتساعها، إلى حدٍّ يجعلها في غير مأمن من الاختراقات التي تحدث من حين لآخر، بل تخرج نوعا ما من دائرة إلى أخرى، وقد تخلق نوعا جديدا. وقد انشغلت هذا النظرية في المجال الأوروبي بإقامة الحدود وخطوط الترسيم الصارمة والحفاظ على نقاء الأنواع، وكان ديدنها هو التصنيف وتجريد المقولات، وإن بدت النظرية في حقيقة الأمر تتعالى على واقع الأدب ونشاط ممارساته النصّية، وبدا ما تقوم به «شبه مستحيل»، فتحت تأثير موجة الحداثة التي عرفتها الآداب الأوروبية، وصعود مفهومات النص والكتابة، أخذت الممارسة الأدبية تنزع إلى نهج اختيارات كتابيّة وأسلوبية أحدثت خروقات لا يستهان بها لنقاء النوع الأدبي واستقلاليته، تحت مسمى التناصّ بما هو خاصية أيّما نصٍّ كان، بقدر ما استتبعت تحطيما جذريّا للترسيمات الفاصلة بين هذا النوع وذاك، وبين شكل تعبيري وآخر، وهو ما أعاد النظر في مقولات الأنواع الأدبية وتراتُبيّتها المعهودة.
من الحلم الرمزي بـ»الكتاب الكُلّي»، و»تراسل الحواس» الذي انطلق مع حلم الرومانسيين لتجاوز الأنواع، إلى رفض الأنواع الذي ميّز قطاعا مُهمّا من الأدب الحديث كما تجلَّى أساسا في أعمال موريس بلانشو ورولان بارت وفيليب سوليرس وجوليا كريستيفا خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، وقبلهم ميخائيل باختين في اهتمامه بحوارية الرواية، كانت النظرية غير قادرة على الفصل بين نوع أدبي وآخر في كثير من الحالات، مثلما أن البرهنة على الفوارق بين الشعري والنثري لم تعد بدورها واضحة. فالأنواع صارت «مركّبة» أو داخَلها التهجين. وهكذا، في ظلِّ التداخل بين ما هو شعري وما هو نثري أو سردي، تحوّلت البنيات، سرديّة كانت أم شعريّة، إلى مجالٍ مفتوحٍ ومرنٍ، لاستيعاب التنوُّع أو الحوار الأنواعي على صعد اللغة والبناء ومُتخيَّل الكتابة، ومن ثمة لم يعد ممكنا الحديث عن الرواية باعتبارها نثرا فحسب، أو الشعر باعتباره مجازا خالصا. فالسمات المهيمنة التي تعبر من نوع معين إلى نوع آخر أمست سمات مشتركة تنتمي إلى الأدبية، أكثر منها إلى الشعر وحده، أو إلى النثر وحده. فكما يمكن الحديث عن عبور تقنيّات السرد إلى الشعر أو نصوص قصيدة النثر تحديدا، يجري الحديث كذلك عن اختراق الشِّعر لمجموعة من الأنواع السردية التخييلية وغير التخييلية.
حوار أنواعي
اهتم العرب المحدثون بمسألة الأنواع في تصنيفاتهم الأدبية، مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، وأحمد الشايب، ومحمد مندور، ومحمد غنيمي هلال، وعز الدين إسماعيل، وقد تباينت مواقفهم من هذه المسألة بين موقف محافظ وآخر أكثر استيعابا وفهما. ثم تطور الأمر مع المتأخرين (رشيد يحياوي، عبد العزيز شبيل، بسمة عروس، إلخ)، الذين أدمجوا اقتراحات النظرية في صميم تحليلاتهم النقدية لنصوص الأدب القديم والحديث معا، مثلما استوعبوا ما كان يحصل في مضمار النظرية من انفجار أو اختراق على صعيد بنائها الأبستيمولوجي. ويمكن أن نعدّ كتاب «التداخل الأجناسي في الأدب العربي المعاصر» للناقد والمترجم التونسي محمد آيت ميهوب، أحد ثمرات الفهم الجديد للمسألة الأنواعية في نقدنا الراهن، وما استجدّ فيها من أوفاق وتنظُّيرات.
ينشغل الناقد بدراسة ظاهرة «التداخل الأجناسي» Intergénéricité من حيث مفهومه وأبعاده ووظائفه، منطلقا من مُسلَّمة من أولية تُقرّ بأنّه لا وجود لنوع أدبي نقيّ صاف مُحصّن، من دون أن تخترقه الأنواع الأخرى. «ولئن أمكن نظريّا ـ كما يقول- تحديد قائمة لخصائص كل جنس على حدة تتطلع إلى أن ترسي معالم إنشائية جنس أدبي ما، فإنّ النصوص التي تدخل في حياض ذلك الجنس، أي التحقق الفردي المادي الإنجازي التاريخي للمواصفات الأجناسية النظرية، لا يمكن أن تصل إلى القارئ خالية من آثار أجناس أدبية أخرى اخترقتها، وتسللت إليها». غير أن الإقرار بهذا التداخل الذي صار سمة قارة في كل الأنواع، وباستحالة نقاء النوع الواحد، لا يعني إلغاء النظرية على الإطلاق، بقدر ما يعني تجديد مفاهيمها وأطرها المعرفية والنقدية في ضوء إبدالات الأدب المعاصر.
تدخل ظاهرة «التداخل الأجناسي» ضمن «المبحث الذي يدرس مسار إنتاج المعنى في النص الأدبي بفعل الاتحاد أو المواجهة بين جنسين، استنادا إلى استراتيجيات مختلفة»؛ فهو يرفض نقاء الأنواع وتراتبيّتها المعهودة، وفي المقابل يصغي إلى انفتاح هذه الأنواع على بعضها بعضا ويتتبع ما يطرأ على بنياتها النصية من تحول ومغايرة. ويتخذ هذا التداخل ثلاثة أشكال، هي: التداخل العفوي الذي يحدث بشكل غير مقصود بحكم طبيعة الكتابة نفسها، والتداخل المقصود الذي ينبني على وعي لدى المؤلف وقصدية سابقة منه، والتداخل التقويضي الذي يروم تحطيم الحدود بين الأنواع بشكلٍ يُشوِّش على هوية كل نوع أدبي ويخيب أفق انتظار القارئ وينسف ذاكرته النصية. وقد اختار الباحث الشكلَ الثاني من التداخل؛ بالنظر إلى أن أصحاب النصوص (أبو القاسم الشابي، نجيب محفوظ، صنع الله إبراهيم، فاروق شوشة، محجوب العياري، إلخ) التي حلّلها وقف عليها، كانوا واعين بخصائص النوع الأدبي، ولكنهم في الوقت نفسه انفتحوا على غيره من الأنواع، «منتظرين من ذلك خوض مغامرة يشاركهم فيها القارئ للوقوف على ما يثمره الحوار الأجناسي من نتائج».
يدرس الباحث هذا الحوار في نصوص متباعدة من الأدب العربي الحديث والمعاصر، وفي كل نوع من أنواعه الأساسية، من خلال تحليله النصي الذي يُفيد من مناهج الشعرية والتداوليات وتحليل الخطاب، ويعنى فيه بإبراز مظاهر التداخل وآلياته بين الرواية والشعر والسيرة الذاتية والقصة القصيرة، وما يستتبعه ذلك من عقد أواصر قربى وألوان المصاهرات، مع فنون وخطابات أخرى (التاريخ، السينما، التشكيل، الإنترنت)، على نحوٍ سمح له باستقصاء جملة عناصر ومبادئ يمكن أن تُناقش لغرض تمحيصها. قد تكون الرواية بحكم ديناميّتها وحواريّتها واتساع مسرحها الحدثي أكثر من غيرها تحقيقا للتداخل، فيما هي تنفتح على التاريخ والشعر والفلسفة والسيرة الذاتية والبورتريه ومحكي الحياة وغير ذلك. إلا أن الشعر بدوره، بعد التغيير الكبير الذي شهده في مناحيه البنائية والتصويرية، قد أخذت بنيته تستوعب أنواعا ومعارف وخطابات تثريها وتُوسِع رؤيتها للذات والعالم؛ كأن تنفتح على الأسطورة والتاريخ والسرد والتشكيل، وعلى تقنيات السينما (المونتاج، الكولاج، عين الكاميرا، تعدد زوايا النظر)، إلا أنّ قيمة المزج أو الحوار بين الفن الشعري وغيره، تبقى ذات اعتبار إذا أحسن الشاعر توظيفها وملاءمتها مع البنية النصية للشعر. لكن يهمّني هنا أن أناقش مسألة العلاقة بين السيرة الذاتية والشعر.
السيرة في الشعر
يدرس الباحث ديوان «أبوابك شتّى» للشاعر المصري فاروق شوشة، وذلك في سياق كتابة السيرة الذاتية شعرا، ويحاول أن يستدلُّ على تمثيل الديوان لسيرة الشاعر ووضوح معالم حياته الشخصية من بواكير الطفولة إلى مرحلة الشباب، مُوجَّها بالعنوان الفرعي «ملامح من سيرة شعرية» كنوع من الميثاق القرائي. ورغم وعيه النظري بالإشكالات التي يطرحها موضوع «القصيدة السيرذاتية» أو «حضور السيرة الذاتية في الشعر»، إلا أنّ العناصر السيرذاتية (مواد نصّية، مؤشرات خارجية ومعلومات مرجعية) غلبت على قراءته في تبيُّن سيرة الأنا الشخصية (الطفولة، العائلة، القرية، الحب الأول، الجامعة، المهنة، العمل في الكويت)، أو علاقة هذا الأنا بـ(نحن) (نكسة 67 تحديدا)، كما غلبت عليها المقاصد الغرضية (الفخر، رثاء الأحباب، محاسبة الآخر، الشكوى)، وبالتالي لم تخرج هذه القراءة عن سياقها الموضوعاتي إلى ما يمكن أن يكشف عن خواصّ الهوية الشعرية؛ وكأن لا فرق بين السيرة الذاتية في الشعر وغيرها في النثر؛ ولهذا بقيت أسيرة المرجعيّ ولم تفكّر في المحتمل والمتخيَّل الذي يُلابسه ويبنيه من جديد، عبر ضمائر الذات الشخصية ووفق إيقاع ذاتيّتها، وإن كان قد اكتفى بالتلميح إليه دون أن يتوقّف عنده كما ينبغي: «لكنّه (أي النص الشعري) سرعان ما يُلبس المعطى الحياتي الواقعي المرجعي لبوس الشعر، مجازا وتخييلا وترميزا، فتنتقل الإحالة المرجعية التسجيلية إلى خلق جمالي فنّي».
مثل هذا المنظور هو شبيه بالمنظورات التي سبق أن قُورِب بها السيرذاتي داخل الشعر، باعتباره مُكوِّنا أو عنصرا ثيماتيّا مهيمنا، غير أنّها إذ تركز على وصف أسلوب الشاعر، أو تدرس ما سُمّي بـ(السير الذاتية الشعرية)، أو تحلل عناصر السيرة الذاتية لأنا الشاعر في قصيدته تحليلا منشغلا بمحتوى السيرة المرجعي، ولم تكن تتعدّى كل ذلك إلى دراسة الخطاب السيرذاتي نفسه، وكشف مضمراته وآليات اشتغاله بوضوح. فالسيرة الذاتية في الشعر ليست سيرة الأنا وأثره «المرجعي» وحسب، بل هي سيرة متخيّلة لأنا تخييلي يُقال، عبر رهان الغيرية، بتكليم أنا آخر.
كاتب مغربي