منذ فترة هذا العام، صدرت رواية بعنوان “نلتقي في أغسطس”، أو “نلتقي في آب”، للروائي الكولومبي الراحل غابرييل غارثيا ماركيز، وقيل أنها كتبت بالتزامن مع روايته الأخيرة التي نشرها في حياته “ذكرى غانياتي الحزينات”، لكنها تركت هكذا في إرشيفه، ووسط أوراقه من دون أن تنشر، ليأتي الورثة بعد ذلك وينشرونها، طمعا في ما تدره من ربح بكل تأكيد. وقد ذكرت في هذا الموضوع ومواضيع أخرى مشابهة، أن كاتبا بحجم ماركيز، حين لا ينشر عملا في حياته، فهو بالطبع غير راض عنه، وليس من اللائق نشره في غيابه. وكلنا نملك أعمالا غير راضين عنها، تظل حبيسة في كومبيوتراتنا، لا ننشرها ولا نفصح عنها ولن نرضى بأن ينشرها أحد حين نغيب.
الآن عرضت منصة نتفلكس مسلسلا مأخوذا من رواية “مئة عام من العزلة”، تلك الرواية الملحمة، أو الرواية الأيقونة التي كانت وحدها مدرسة تعلمت منها أجيال كتابية كثيرة، ذلك بما تحتويه من زخم إبداعي لغوي، وخيال كثيف خصب، وشخصيات لا تنسى أبدا. وهي بلا شك رواية مؤسسة لما سمي بالواقعية السحرية بعد ذلك، وإن كانت ثمة كتابات عديدة في هذا النمط سبقتها، وأعتقد أن رواية بدرو بارامو ربما كتبت قبلها. وحتى في أفريقيا، أعتقد أن رواية “أشياء تتداعى” للنيجيري تشينوا أشيبي، كتبت قبلها، وإن لم أكن متأكدا، وعندنا في التراث العربي ألف ليلة وليلة، ذات الإيحاء السحري العظيم.
مسلسل “مئة عام من العزلة”، يبدو من حلقته الأولى مدهشا جدا، ويلتزم إلى حد ما بخط الرواية التي كتبها ماركيز، ليكتب المخرج رواية أخرى نشاهد سحرها أمامنا.
إن المخرج، بالرغم من العدد المحدود للحلقات، استطاع أن يعطي الرواية حقها، ويستند على الشخصيات نفسها في بنائه لروايته المشاهدة، ولأننا كنا نتوق لرؤية قرية ماكوندو التي أسسها خوسييه أركاديو بونديا، بعد خروجه من قريته الأولى، مع نفر من أصدقائه، ثم ربطها مع العالم بعد ذلك، فقد جاء المسلسل ليصنعها لنا. نعم كان موفقا جدا في بناء ماكوندو بكل بيوتها وأزقتها، ومزارعها وناسها وحيواناتها، وأيضا بنزقها، ونسائها التواقات إلى الحب والعطف، وأولئك الرجال الذين يبيعون ويشترون ويعشقون، ويرقصون ويغنون. وبالنسبة لعائلة بونديا، بدا لي خوسيه الممثل، هو خوسيه الموجود في الرواية نفسه، الشخص المتهور، الطموح المتميز وسط عائلته ومجتمع القرية، ثم الغارق في أوهام الكيمياء، وعلم الفلك، والعاشق لأورسولا أولا وأخيرا.
تبدأ الرواية التي كتبها ماركيز بمشهد وقوف الكولونيل أورليانو بونديا أمام فصيل الإعدام، وتذكره لطفولته حين أخذه أبوه لأول مرة لرؤية الجليد، الذي أحضره الغجر حين جاءوا إلى القرية. هنا يستخدم المخرج صوت الراوي العليم، ليخبر بذلك الحدث، وليظهر بين حين وآخر ليخبر عن تقدم الزمن، أو مضي السنوات، وأعتقد أن تقنية كهذه كانت مهمة لأنه من الصعب تتبع أحداث في عمل كبير مثل هذا، من دون فهم. الراوي هنا يشرح الغوامض، ويوضح كيف انتقل طفل مثل أورليانو مثلا، إلى صبي مراهق غرسه أبوه في مختبر الكيمياء، ثم إلى كولونيل، ومحكوم بالإعدام.
شخصية أورسولا، أيضا كما كتبت في الرواية، المرأة القوية المكافحة، التي تجد نفسها مسؤولة عن بيتها وأسرتها، حين انشغل الزوج عنها، أولا بغيابه الطويل، بحجة اكتشاف العالم، ثم بانعزاله في مختبره الذي أنشأه في البيت بتحريض من ملكيادس الغجري، الذي أصبح صديقا له، وزوده بالخرائط والمواد اللازمة لصناعة الذهب، والمعادن عموما.
شخصية أورسولا بدت هي المكتوبة، وكأنها خرجت من الورق، لعالم التصوير من دون أي رتوش، وبالرغم من أنني لا أستطيع تذكر أسماء الممثلين اللاتينيين الذين أدوا هذه الأدوار، إلا أنني أعتقد في مقدرتهم، وغالبا هم نجوم في بلدانهم.
شخصية خوسييه الابن الذي فر من القرية بعد أن حملت بيلار، المرأة قارئة البخت، التي كان يقيم معها علاقة، وولدت بعد ذلك طفلا تم تسميته أورلاندو، وضمه إلى عائلة بونديا، هي أيضا شخصية مقنعة، وشخصية المرأة بيلار، شديدة السطوع، وأدت دورها بجمال وفتنة.
بالنسبة لملكيادس الغجري، الذي حمل معه كل تلك الأعباء إلى ماكوندو، وصادق خوسيه بونديا، وعلمه الكثير، ورصف له طموحا غريبا ومرهقا، ثم مات وعاد إلى الحياة مرة أخرى، ليصف الموت وشجونه، لم يبد لي مقنعا كما في الرواية. ملكيادس في الرواية، كان صاخبا، مجنونا، وسريع التحرك، بينما ملكيادس المسلسل يبدو عاقلا ورزينا، وأقرب إلى سكان المدن المستقرين، منه إلى الغجر المترحلين. لكن ذلك لم يمنع تجانسه في العمل، وأنه أيضا من عطور ماركيز التي لم يفسد المسلسل أريجها.
عموما، مسلسل “مئة عام من العزلة” يبدو مقنعا إلى أقصى حد، وهو من المسلسلات التي لن يحتج كتابها الأصليون على تشويهها كما نرى في كثير من الأحيان، حين يظهر كاتب إعلاميا لينفي علاقته بالمسلسل الذي أخذ من قصته. وقد تحدثت مرة في هذا الموضوع، وذكرت أن مجرد موافقتك على تحويل قصة لك للسينما أو التلفزيون، يعني أنك توافق على معالجتها بأدوات أخرى، بعيدة عن أدوات الكتابة.
بمعنى أن الأدب شيء، والسيناريو شيء آخر، يمكن أن يلتزم بالقصة، ويمكن أن يركلها بعيدا، ويستعين بالفكرة فقط لصناعة إبداع آخر.
*كاتب من السودان