السباقات الرياضية والشرعية السياسية

حجم الخط
0

بدأ الجدل حادا حول اقامة سباق السيارات الدولي المعروف بـ ‘فورمولا 1’ في البحرين المزمع اقامته بعد بضعة ايام، ومعه النقاش حول تنامي دور الرياضة في العلاقات الدولية والاقتصاد ومدى امكان تحريرها من الاستغلال السياسي من قبل الحكومات والجهات السياسية الاخرى. انه جدل متواصل في الدول التي تشجع النقاش العام حول القضايا التي تهم مجتمعاتها، وليس في الدول المحكومة بانظمة قمعية تصادر الكلمة وتمنع حرية التعبير. وحتى بيرني ايكلستون، رئيس مجلس ادارة السباق، دخل على الخط بعد ان شعر بحجم المعارضة لاقامة السباق، وقال انه مستعد للاجتماع مع المتظاهرين والسعي مع النظام البحريني لايجاد حل، ولكن كلامه لم يؤخذ على محمل الجد لانه قال كلاما مشابها العام الماضي.
والموضوع الرياضي لا ينفصل عن الواقع السياسي خصوصا في المنطقة العربية التي تسعى شعوبها لتحقيق تحول ديمقراطي حقيقي. هذا التحول، في نظر الناشطين لتحقيقه، اصبحت تعوقه عوامل كثيرة من بينها الاستغلال البشع للدولار النفطي الذي بدأ نفوذه يمتد ليس للجهات السياسية والبرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني في الغرب فحسب، بل حتى للاندية الرياضية. وحتى على المستوى المحلي تحولت السباقات الرياضية في بعض الاحيان الى ازمات سياسية حادة. فقبل اقل من 14 شهرا حدثت كارثة ستاد بور سعيد عقب مباراة كرة قدم بين فريقي كرة القدم: المصري والاهلي، وراح ضحيتها اكثر من 73 قتيلا ومئات المصابين. ونجم عن ذلك ازمة عصفت بالنظام السياسي الذي لم يمر على وجوده سوى عام واحد بعد الثورة التي اطاحت بحسني مبارك. وقبل بضعة اعوام حدثت ازمة دبلوماسية حادة بين الجزائر ومصر بعد مباراة بين منتخبي البلدين في القاهرة نجم عنها شجار ادى الى مقتل عدد من الجزائريين. وهكذا تحولت الرياضة في بعض الحالات الى مجال للاختلاف السياسي اما نتيجة التعصب او الجهل او الحماس غير المحدود من قبل مشجعيها. وهنا ايضا يطرح الموضوع الرياضي للنقاش وما اذا كان في جوهره ملتزما بالهدف الاساسي منه وهو تربية الاجسام بالشكل الذي يجعلها قادرة على التمتع بالحياة ومقاومة الامراض. ولكن المضمار الحقيقي للممارسة الرياضية محدود جدا، يقتصر في اغلب احيانه على الرياضيين المحترفين، وليس للجميع.
ويمكن طرح ظاهرة ‘النجومية’ كواحدة من آفات الرياضة الحديثة حيث تحولت الى سمة لأقلية صغيرة من المحترفين بينما اكتفت غالبية الجماهير بالتفرج والتصفيق لهذا الطرف او ذاك. وهذه الظاهرة تشبه كثيرا مضماري السياسة والاقتصاد. فهنا تتجلى الظاهرة النخبوية بشكل واضح، فيتحول السياسيون الى نخبة متميزة عن الجماهير، تتمتع بامتيازات خاصة وموقع اجتماعي مختلف. وحتى الممارسة الديمقراطية لم تؤد الى ‘شيوع’ الممارسة السياسية التي بقيت محصورة بالبرلمانيين والوزراء المنتخبين من بينهم، بينما بقيت الجماهير على ضفة السياسة تراقب ما يفعله ‘ممثلوها’ بدون ان تكون قادرة حقا على التأثير المباشر على مجريات السياسة في بلدانها. والممارسة الاقتصادية هي الاخرى افرزت ظاهرة الثراء الفاحش المحصور بايدي فئة صغيرة من كل مجتمع، بينما ترزح الجماهير تحت ضغوط الحياة المادية. وبرغم الغاء ‘العبودية’ رسميا الا ان انظمة العمل وقوانينه الحديثة ما تزال قاصرة عن منع الاستغلال او التوزيع العادل للثروة. فانما يجمع الاثرياء اموالهم من عرق العمال المستخدمين لديهم في مقابل رواتب مقننة يقررها اصحاب رؤوس الاموال. فبرغم تراجع اداء المصارف الغربية في السنوات الخمس الاخيرة، الا ان مدراء هذه المصارف ما يزالون يستلمون رواتب وعلاوات بالملايين، بينما هم المسؤولون عن خسائر تلك المصارف التي يتكبدها المستثمرون، واغلبهم من ذوي الدخل المحدود.
الرياضة في عالم اليوم تحولت هي الاخرى الى وسيلة للجشع واستلاب اموال الفقراء الذين تستدرجهم انظمة الدعاية والتسويق المؤثرة لشراء تذاكر بعض السباقات التي تبلغ مئات الدولارات. وسباق السيارات المعروف بـ ‘فورمولا 1’ واحد مما يصطلح على تصنيفه ضمن ‘الرياضة’، وقد تحول الى مشروع اقتصادي بشع، يساهم في تدمير البيئة بما يستهلكه من وقود واطارات وما ينطوي عليه من استغلال للبسطاء الذين يستدرجون لمشاهدة حلبات السباق في مقابل مبالغ هائلة يدفعونها لتذاكر الدخول. ولشعب البحرين تجربة مريرة جدا مع حلبات السباق تحت عنوان ‘فورمولا 1’. فعندما انطلقت الثورة قبل عامين كان موظفو تلك الحلبة من بين ضحايا النظام السياسي، فقد اعتقلوا وعذب بعضهم داخل حلبة السباق، وطرد اغلبهم من وظائفهم انتقاما لمشاركتهم في ثورة شعبهم والمطالبة باصلاح سياسي حقيقي. تحولت حلبة سباق السيارات في البحرين الى غرف للتعذيب تؤكد افادات ضحاياها ان كرامتهم نحرت قربانا للقائمين على تلك الحلبة. ونتيجة للضغط الذي تولد نتيجة تلك الافادات وقتها تم الغاء السباق الذي كان مزمعا في شهر ابريل 2011، حيث كانت البلاد ترزح في ظل القوانين العرفية واحكام الطوارىء، وتخضع للاحتلال السعودي الذي لم يمض عليه سوى شهر واحد. كان قرار الالغاء يومها بريطانيا، كما ان قرار عقدها في العام الماضي صادر عن الجهات السياسية البريطانية.
وقد بدأ الجدل حول السباق المزمع اقامته في التاسع عشر من هذا الشهر يحتدم على مستويات عديدة. اولها ان الاتصالات السياسية بين لندن والمنامة تكثفت بهدف تحجيم الدعوات المطالبة بالغاء السباق. ولوحظ ان لندن هي العاصمة الوحيدة في العالم التي أصرت على الاستمرار في العلاقات الدبلوماسية مع الحكم في البحرين برغم تواتر التقارير حول الاوضاع السياسية والامنية في البلاد وبرغم الانتقادات الشديدة لمنظمي السباق بسبب اصرارهم على الاستمرار في تجاهل المطالبة بالغائه.
ثانيها: على الصعيد الحقوقي اصدرت منظمات حقوقية عديدة في الايام القليلة الماضية تقارير حول استمرار انتهاكات حقوق الانسان من قبل السلطات البحرينية لمنع تنفيذ تهديدات القيادات الميدانية الثورية بعرقلة السباق والاستفادة من الحضور الاعلامي المتوقع لكشف حقيقة الاوضاع وتأكيد الاصرار على الاستمرار في المطالبة بالتغيير السياسي الجذري. فمنظمة العفو الدولية اصدرت في 10 ابريل بيانا اكدت فيه ان اجهزة الامن البحرينية اعتقلت العشرات من المواطنين لتعويق التحرك الشعبي خلال ايام السباق، وناشدت السلطات اطلاق سراح هؤلاء، كما ناشدت منظمي السباق اعادة النظر في قرار عقده في الظروف الامنية والسياسية المتوترة حاليا. وكذلك فعلت منظمة هيومن رايتس ووج التي دعت هي الاخرى لاطلاق سراح السجناء وتنفيذ التوصيات التي صدرت عن جهات عديدة في مقدمتها لجنة تقصي الحقائق المستقلة برئاسة الدكتور شريف بسيوني، ومجلس حقوق الانسان الذي اصدر في شهر سبتمبر الماضي 176 توصية تدعو لاطلاق سراح قادة الثورة والاطباء والمعلمين والنساء، واجراء اصلاحات سياسية حقيقية تفضي الى تحول ديمقراطي حقيقي. وكذلك اصدر الاتحاد الاوروبي قبل ثلاثة شهور توصيات مشابهة في إثر زيارة قام بها وفده الى المنامة في شهر ديسمبر الماضي. هذه التوصيات اصبحت عنوانا لاحتجاج العديد من المنظمات ضد اقامة سباق السيارات في البحرين. وقد تعرض رئيس المؤسسة، السيد بيرني ايكلستون، العام الماضي لانتقادات شديدة بسبب تجاهله المطالبة بالغاء السباق. وثمة اعتقاد راسخ بان الحكومة البريطانية التي يرأسها ديفيد كاميرون من اكبر مشجعي ايكلستون على اقامة السباق وتجاهل دعوات المقاطعة. ولكن مشكلة المنظمين تتعمق حين ترتفع اصوات من بين سائقي سيارات السباق ضد اقامته في المنامة، كما حدث العام الماضي عندما انسحب فريق السباق الهندي بسبب مخاوفه من اعمال عنف تستهدف الفرق.
وسواء اقيم السباق ام الغي فستكون الايام القليلة المقبلة ليست حبلى بالمفاجأت فحسب، بل بالتطورات المحلية خصوصا ان ثوار 14 فبراير اعلنوا برنامجا واسعا من الاحتجاجات والتظاهرات اذا ما اقيم السباق. ويؤكد هؤلاء على ان الرياضة ستكون الخاسر الاول لانها ستكون عرضة للاستغلال من قبل انظمة القمع. ويشيرون كذلك الى الفعاليات الدولية في السبعينات والثمانينات ضد اقامة اية سباقات رياضية في جنوب افريقيا التي كانت يومها محكومة بنظام عنصري بغيض. فقد رفع الرياضيون اصواتهم ضد المشاركة في اية سباقات تقام في تلك البلاد لانها تضفي شرعية على نظام غير شرعي. وكثيرا ما تلجأ الانظمة الديكتاتورية لاستبدال الشرعية الشعبية بتلميع صورتها لدى العالم من خلال فعاليات اخرى كاقامة السباقات الرياضية والمؤتمرات ونشر الاعلانات في الصحف العالمية وشراء مواقف السياسيين وصناع القرار بالعطايا المادية، واعطاء الرشاوى لوسائل الاعلام والصحافيين لحثهم على تقديم صور زائفة لانظمة الاستبداد. كما يسعى هؤلاء للتأثير حتى على المنظمات الحقوقية بدعمها تحت عنوان ‘الدعم الخيري’ لتخفف من حملاتها ضد انتهاكات تلك الانظمة وما تمارسه من ديكتاتورية وقمع ضد شعوبها. وهكذا يجد معارضو تلك الانظمة صعوبة بالغة في تشكيل رأي عام دولي ضدها، خصوصا مع انتشار ظاهرة الرشاوى وهيمنة فئات سياسية ذات مصالح تجارية خصوصا في قطاعات السلاح والعلاقات العامة.
برغم ذلك انبرى العديد من الحهات السياسية والدولية لمعارضة اقامة سباق السيارات في البحرين، برغم ضغط الحكومة البريطانية على منظمي السباق لعقده في موعده ومكانه. فقد التزمت بريطانيا سياسة دعم انظمة الحكم العائلية استمرارا لسياساتها الاستعمارية وانسجاما مع تاريخها الحافل بالحروب والاستيلاء على ثروات الشعوب بتسليط انظمة استبدادية تعتمد في وجودها على الدعم الامني البريطاني. فقد وقعت سبع منظمات حقوقية دولية من بينها الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان والعفو الدولية وهيومن رايتس ووج على رسالة تطالب بعدم اقامة السباق ما دامت العائلة الحاكمة ترفض تطبيق التوصيات الكثيرة التي طرحتها جهات دولية من بينها الاتحاد الاوروبي ومجلس حقوق الانسان. وترى هذه الجهات ان من غير المقبول اقامة سباق في بلد يعتقل مواطنيه لاسباب تتعلق بحرية التعبير او التجمع السلمي. كما ان اعتقال اهم اربع شخصيات مدافعة عن حقوق الانسان ساهم في تأليب الرأي العام الحقوقي ضد تطبيع العلاقات مع الحكومة البحرينية. وتجدر الاشارة الى ان المال النفطي السعودي اصبح عاملا اساسيا في تفعيل الثورة المضادة لمواجهة التغير الديمقراطي في العالم العربي. وتخوض الانظمة غير الديمقراطية معركة وجود او سقوط مع قوى الثورة التي تكالبت ضدها القوى الاستعمارية التي ترى في دمقرطة العالم العربي تهديدا لمصالحها خصوصا الحصول على النفط بكميات واسعار مناسبة.
ان التعاطي مع سباق الفورمولا في البحرين لا ينفصل عن السجال حول مفاهيم الرياضة وقيمها، والثورات العربية والتحديات التي تواجهها، والهيمنة الغربية على العالم العربي ووسائلها، والفساد المالي والاداري وآثاره على مسيرة الشعوب وتطورها. ولذلك، برغم الدعم الواضح من اصحاب رؤوس الاموال والشركات المتعددة الجنسية لدعم الانظمة القمعية، فقد اعلن العديد من المعنيين بالسباق مواقف تطالب بالغاء عقده في البحرين. كانت البداية باعلان شركة فودافون سحب الخدمات التي تقدمها لشركة ماكلارن التي تتسابق سياراتها في فورمولا 1، مشيرة الى الاوضاع الامنية والسياسية والحقوقية المتردية في البحرين. ثم جاء السيد داميان هيل، البطل السابق في سباق السيارات، ليفاجيء الكثيرين بمعارضته اقامة السباق في البحرين، وتناقلت وسائل الاعلام موقفه بشكل احرج منظمي السباق وكذلك وزارة الخارجية البريطانية التي تصر على التعامل مع نظام الحكم في البحرين بشكل طبيعي. ووقع اكثر من 25 من اعضاء البرلمان البريطاني عريضة تطالب بالغاء السباق حتى تنفذ حكومة البحرين التوصيات الدولية الكثيرة ومن بينها اطلاق سراح قادة الثورة والنشطاء الحقوقيين. واعلن النشطاء في البحرين عشرة ايام متواصلة من النشاط الثوري مطالبين بالغاء السباق، وتوعدوا بالمزيد من الحراك الميداني بما في ذلك التظاهرات وقطع الشوارع وتكثيف استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ضد النظام والسباق المزمع.
هذه التطورات اكدت استمرار ثورة البحرين واسقطت كافة محاولات تهميشها او النيل منها خصوصا بعد ان ظهر للعالم انها الاكثر سلمية واستقلالا والاقل اعتمادا على الغرب خصوصا التحالف الانكلو- امريكي. ويعتقد النشطاء البحرانيون انهم كسبوا المعركة قبل بدء السباق، وسوف يواصلون مكاسبهم الاعلامية خلال السباقات، مؤكدين ان النظام لن يجني سوى دعاية محدودة تقلل من شأنها فعاليات الثورة والتعاطف الدولي الذي بدأ يتكثف لصالحها. فلطالما انفقت اموال النفط لشراء الاندية الرياضية الغربية وبناء ناطحات السحاب في الدول الاوروبية في مقابل الدعم الامني والسياسي والعسكري الذي تقدمه حكومات تلك الدول للانظمة التي ما تزال ترفض التحول نحو الديمقراطية واستحصال تفويض من شعوبها. ولكن ذلك لا يمكن ان يوفر على المدى البعيد حلا حقيقيا لاي من تلك الدول او المنطقة بشكل عام، فثمن التخلي عن التفويض الشعبي واستبداله بالدعم الامني الغربي من خلال الدعاية واستضافة السباقات ومسايرة الغرب في سياساته خصوصا ازاء قضية فلسطين والصمت على هيمنته الاقتصادية والسياسية على المنطقة لن يكون رخيصا، بل ليس مستبعدا ان يساهم في تسريع عملية التغيير والتحول الديمقراطي وسيادة الشعوب على اوطانها ومصائرها.

‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية