اشتراطات السرد التسجيلي

للرواية أنواع متعددة، ما عُرفت دفعة واحدة وإنما بالتدرج الفني في الكتابة عن الإنسان وطبائعه، والمجتمع وظواهره. وقد طوّع الكتّاب قالب الجنس الروائي تطويعا يخدم قضاياهم، فصار لكل نوع أغراضه الخاصة وطرائقه المحددة في مخاطبة القارئ وتوصيل الرسائل إليه. ولا يعني تعدد الأنواع أنها كلها على درجة واحدة من الناحية الفنية، أو هي على مسافة واحدة من ناحية الذيوع واكتراث الكتّاب بها. إذ أن لكل واحد منها سماته ومقتضياته، التي وفقها تتحدد معيارية التوظيف وضرورات الاستعمال.
وتقف الرواية الواقعية في طليعة الأنواع وبعمر فني يمتد ما امتدت علاقة الإنسان بالعالم وعلاقة العالم بالتاريخ. وبسبب قوة هذا النوع وسعة تمثيلاته استطاع اكتساح نوع روائي سبقه هو الرواية التاريخية، فانزوت بعد أن كان التأسيس للجنس الروائي قد تم من خلالها، ثم كان لمدارس علم النفس والسلوك دور كبير في أن تتجه الرواية نحو تناول الحياة الداخلية للإنسان وتغوص في بواطن وعيه ولا وعيه، بغية تحليلها نفسيا باستعمال تقانات فنية تدعم عناصر السرد الروائي، وتساهم في كشف جبل الجليد العائم. وهذا ما ساعد في ظهور نوع روائي عُرف بتيار الوعي. وبهذا الشكل تدرج ظهور الأنواع الروائية، وكلما بزغ نوع جديد، ازداد قالب الرواية الأجناسي قوة، وحافظ أكثر على هيئته مضبوطا في حدوده ومحددا في ضوابطه؛ أيا كانت التقانات الفنية والثيمات الموضوعية. وعلى الرغم من ذلك، تظل الرواية الواقعية في الطليعة دائما، لقربها من قضايا الإنسان، ولجدارتها في تحليل الواقع ورصد مشكلاته في كل زمان ومكان. وليس في هذا غرابة، فالواقعية مذهب أدبي، يمثل اليوم وابداً، كما يقول بوريس بورسوف. ولهذا هي في حالة صيرورة متواصلة، تجعل الرواية مواكبة لكل المستجدات، ومستجيبة لكل المتغيرات. وقد نالت أنواع روائية، كالسيرية أو الاتوبوغرافية والنفسية والجديدة والبوليسية والتغريب والفنتازيا والخيال العلمي، اهتماما نقديا ملحوظا على العكس من نوع بقي مضمرا ولا يكاد يذكر هو الرواية التسجيلية.
ولو بحثنا في المدونة النقدية الغربية، بله العربية عن تنظيرات مخصوصة بها، فسنجدها محدودة جدا. وليس السبب قلة كتابتها حسب، بل هو أيضا اختلاط جماليات الكتابة التسجيلية بالكتابة الواقعية والتاريخية والأتوبوغرافية. ولعل أهم جماليات السرد التسجيلي أنه يُكتب واحتدامات الواقع المعيش من المصيرية المحددة بمدة زمنية، ما يكشف هول معطياتها وأثرها العميق في بنية المجتمع حاضرا ومستقبلا. ويبدو أن قلة كتابة السرد التسجيلي هي التي تجعل آفاقه ومواضعات استعماله غير جلية، أو ملتبسة عند كثير من الكتّاب والنقاد على حد سواء. وأول التفات نقدي إلى الرواية التسجيلية كان على يد اللغوي والناقد البريطاني أدوين موير
(1887-1959) حين وضع تنظيراته الخاصة لهذا النوع في كتابه (بناء الرواية) الصادر باللغة الإنكليزية في لندن 1928، متخذا من كتاب برسي لوبوك (صنعة الرواية)1921 مرجعا. فكانت هذه هي البداية أيضا لتأسيس النقد الأنكلوسكسوني.
وقد أقام النقاد الشكلانيون معمارهم الخاص على نقد الشكل وتقانات البناء، ومثلوا بأعمال روائية هي في كثير منها روسية، وكان توجههم المنهجي بالعموم يوصف بأنه لغوي أسلوبي، غير أن نقاد الغرب الأوروبي سعوا إلى المغايرة عبر التحاذي في دراسة الشكل مع التاريخ والفلسفة، متحرين النظر الفكري في أعمال روائية عالمية عامة وأعمال روائية مكتوبة باللغة الإنكليزية خاصة. وفي هذا الإطار، كانت نظرتهم التقييمية لروايات تولستوي ودوستويفسكي وغيرهما مختلفة بعض الشيء، يقول الناقد الروسي بورسوف: (في الغرب يكتبون عن دوستويفسكي أكثر مما يكتبون عن أي كاتب عظيم من الماضي. يكتبون بطرق متباينة لكنهم جميعا توحدهم خاصية واحدة هي، أنهم يحاولون تبرير التراجع عن تقاليد واقعية القرن التاسع عشر بمساعدة دوستويفسكي). وليس أدل على ذلك مما رآه برسي لوبوك في ما اتبعه تولستوي في رواية (الحرب والسلام) من أنه يقوم على فكرة مسيرة الأجيال، وأن في الرواية شكلا صعب التحديد، وحالة متطرفة جدا ورواية مسهبة زاخرة بالناس والأحداث. بيد أن أدوين موير وجد فيها نوعا روائيا سماه الرواية التسجيلية Novel Chronicle. وهذا ما لم يقف عنده النقاد الروس مثل شكلوفسكي أو ايخنباوم أو تيتانوف.
ومما سعى إليه موير هو التفريق بين الرواية التسجيلية ورواية الحقبة، من ناحية أنَّ الأخيرة تتحدث عن أسرة ستفقد أهميتها بعد عشرين عاما وتصبح شيئا عتيقا في حين توسِّع التسجيلية أمر الحقبة بالبحث في أعماقها. وعدَّ موير بعض روايات جيمس جويس وفرجينيا وولف تسجيلية، على أساس أنها لا تقدم صورة لمجتمع يصلح لكل زمان ومكان أي لا تعرض حقيقة إنسانية عامة كما أنها لا تنظر إلى الخيال بعين الشمول وإنما بعين إخبارية معتمدة في ذلك على ذكاء يُحسن التقنين. وفصَّل موير القول في اشتراطات كتابة الرواية التسجيلية، وأولها اللانمطية المتمثلة بسعة المساحة في الكتابة عن الإنسان والواقع فتكون الأحداث عرضية ولكنها تجري داخل إطار محدد كل التحديد (إطار صارم تسير فيه الأحداث سيرا لا يخضع لمنطق خاص أو نظام معين) أي البحث في ما هو مختلط لا تمييز فيه بين الأسباب والنتائج ولا في ما هو متسلسل أو متناوب. وثاني اشتراط هو النهائية (فبدلا من النظر اللانهائي المستمر الذي يأخذ العين في آلاف الاتجاهات مرة واحدة، دون أن يمسك بها في نقطة ثابتة بدلا من ذلك يقدم إلينا المنظر صورة كاملة مفردة. إذ قد يكون مرَّ من خلال الخيال ونفض عنه ما ليس ملائما وتركزت دلالته تركزا قويا). وقد استند أدوين موير في هذا التصور إلى تنظيرات برسي لوبوك الذي رأى أن رجال ونساء (الحرب والسلام) يمثلون دائرة الميلاد والنمو والموت ثم الميلاد من جديد، إنهم يمثلون القصة الأزلية التي لا تتبدل في كل زمان ومكان.
وثالث اشتراط هو العالمية، وفيها الزمان والمكان متساويان لا في تجسيد القدرية، بل الحياة الإنسانية بمعناها الشمولي الواسع الذي فيه تجتمع التضادات كالوضوح والغموض، النظام والفوضى، الشك واليقين. وآخر الاشتراطات هو العمق الذي يجعل الرواية التسجيلية لا تتعلق بجيل أو جيلين، بل بدورة للأجيال تتكشف فنرى الحياة الإنسانية ممتدة أبدية (ونفهم الحياة بطريقة أعمق عندما نراها في موقف يغلب عليه الزمان أو المكان، أكثر مما نراها فيهما معا على قدم المساواة كما نراها عادة).
إن ما يضعه موير من سمات واشتراطات للرواية التسجيلية هي في الحقيقة ليست خاصة بهذا النوع وحده، وإنما هي سمات الجنس الروائي بالعموم بوصف الرواية وريثة الملحمة في تصوير الصراع بين الخير والشر والتوعية بالحياة الإنسانية والسلوك الاجتماعي.

كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية