هاجر شيزاف
في مكتب أنيق على حافة الصحراء، في منطقة منسية بالنسبة للضفة الغربية، علقت على الحائط صورة لحي سكني متطور. تلك البيوت المكونة من طابق واحد والمسطحات الخضراء تم الاعتناء بها جيداً. لو لم يكن هناك كتابة باللغة العربية لفكرت بأن الأمر يتعلق بمشروع بناء فاخر في إحدى البلدات في مركز البلاد.
المكتب الذي علقت فيه الصورة يعود لمراد جدال، رئيس مجلس المالحة، وهي قرية جديدة أقامها الفلسطينيون في السنوات الأخيرة شرقي بيت لحم. ورغم أنها تعتبر منطقة متنازعاً عليها بين المستوطنين والفلسطينيين، امتنعت إسرائيل حتى الآن عن التدخل في هذا النزاع. ولكن صعود حكومة اليمين المتطرفة وخرق اتفاقات سياسية، سواء من قبل الفلسطينيين أو الإسرائيليين، وازدياد البؤر الاستيطانية في المنطقة في ظل الحرب، أدى إلى تغير كبير في الظروف. في الأشهر الأخيرة، بتعليمات من الحكومة، تم وقف زخم البناء في القرية الفلسطينية الجديدة، ولم يبق في المنطقة سوى هياكل لمبان غير مكتملة. في هذه الأثناء، يبدو أن الحي سيبقى على ما هو عليه في صورة فقط.
صعود حكومة اليمين المتطرفة وخرق اتفاقات سياسية، سواء من قبل الفلسطينيين أو الإسرائيليين، وازدياد البؤر الاستيطانية في المنطقة في ظل الحرب، أدى إلى تغير كبير في الظروف
“المحمية المتفق عليها”، هذا اسم منطقة النزاع، موجودة في مناطق “ب” التي تم تسليمها للسلطة الفلسطينية في إطار اتفاق “واي ريفر”، الذي وقع عليه رئيس الحكومة ن نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات في 1998. حسب هذا الاتفاق، هذه المنطقة، مثل غيرها في مناطق “ب” في الضفة، كان يجب أن تكون منطقة بدون مستوطنات، وصلاحية هدم وتخطيط بناء البيوت فيها أعطيت للسلطة الفلسطينية التي تعهدت بعدم البناء فيها. عملياً، تم البدء ببناء قرية جديدة.
قبل أسبوعين، هدمت إسرائيل في المنطقة مباني للفلسطينيين، للمرة الأولى منذ التوقيع على اتفاق “واي”. الوحدات السكنية أقيمت خلافاً لتعهد السلطة الفلسطينية عدم البناء في المنطقة. ولكن حتى قرار الحكومة الإسرائيلية بهدم هذه المباني بقيادة الوزير سموتريتش، يعد خرقاً واضحاً لهذا الاتفاق، وتفكيكاً آخر لما بقي من الاتفاقات السياسية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
في موازاة هذه الخروقات، تنشر حركة “السلام الآن” عن إقامة خمس بؤر استيطانية في المنطقة في الفترة الأخيرة، جميعها في مناطق “ب”، وهو المكان الذي قلل المستوطنون التواجد فيه في السابق. هذه البؤر الاستيطانية الأكثر عنفاً تسمى “مكنيه ابراهام”. منذ إقامتها، يتحدث الفلسطينيون عن أحداث عنيفة متكررة، وعن محاولات طرد. كل ذلك يشير إلى اتساع نشاطات المستوطنين في مناطق “ج” وتمددها إلى مناطق “ب”.
“إقامة البؤر الاستيطانية في مناطق “ب” وهدم ممنهج لمباني الفلسطينيين باتت مرحلة أخرى في ثورة الضم التي تحدث في المناطق”، قال يونتان مزراحي وهو من طاقم متابعة الاستيطان في حركة “السلام الآن”. “نتنياهو وسموتريتش يسمحان للمستوطنين بالبناء غير القانوني وغير المسبوق، إلى جانب هدم بيوت الفلسطينيين على نحو غير مسبوق. الانشغال الاستحواذي المرضي بمناطق “ب” هو جزء من قرار استراتيجي لحكومة إسرائيل، ومن تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين لخلق جبهة مواجهة أخرى”.
جوهرة جميلة في مناطق “ب”
المالحة، وهي القرية الفلسطينية الموجودة في أراضي المحمية المتفق عليها، بدأ البناء فيها في السنوات الخمس الأخيرة. البناؤون ومشترو العقارات فيها هم من سكان المنطقة القدامى، ومن سكان الضفة الغربية الذين يبحثون عن السكن في منطقة واسعة وأرخص من مناطق “أ” المكتظة – أيضاً سكان شرقي القدس الذين يهتمون بالأراضي للاستثمار.
ظهور سريع للبيوت وهياكل المباني جاء نتيجة عملية اقتصادية – اجتماعية على جانبي الخط الأخضر. “أردنا إقامة قرية نموذجية، وإقامة حدائق وشوارع منظمة، لا تشبه البلدات الموجودة هنا في المنطقة”، قال للصحيفة رئيس مجلس المالحة، جدال. يشير بيده إلى منشأة سياحية فيها بركة، بدأ في إقامتها في المكان، التي تم وقف البناء فيها الآن نتيجة قرار الحكومة. اتخذ الكابنت هذا القرار في حزيران الماضي، وصادر من السلطة الفلسطينية صلاحية السماح بالبناء في المنطقة. بعد القرار، صدر أمر عسكري ينص على منع البناء في المنطقة، وزخم التطوير توقف دفعة واحدة.
رغم أن البناء في المكان معارض للاتفاق بين السلطة وإسرائيل، يقول الفلسطينيون بأنه ما لم تكن صلاحية إنفاذ القانون بخصوص البناء لدى إسرائيل، فلا أحد في الإدارة المدنية جعلهم يفكرون بوجود سبب للقلق. “قبل قرار الكابنت، قالت لنا الإدارة المدنية بأن علينا التعامل مع السلطة فيما يتعلق بالبناء في هذه المنطقة وليس مع إسرائيل”، قال جدال، الذي يعبر عن إحباط الكثيرين من الضرر الكبير الذي لحق بهم نتيجة قرار إسرائيل.
الأشخاص الذين اشتروا الأراضي في المنطقة قالوا إنهم عندما توجهوا إلى الإدارة المدنية لاستيضاح إذا كان البناء في المنطقة مسموحاً، تم توجيههم للسلطة الفلسطينية
الأشخاص الذين اشتروا الأراضي في المنطقة قالوا إنهم عندما توجهوا إلى الإدارة المدنية لاستيضاح إذا كان البناء في المنطقة مسموحاً، تم توجيههم للسلطة الفلسطينية. وقالت الإدارة المدنية بأنها عندما لاحظت حركة البناء حاولت وقفها عن طريق التوجه إلى السلطة. ورداً على سؤال “هآرتس”، قالت إنها “على مر السنين، لا سيما في السنوات الأخيرة عندما ازداد البناء في المكان، أرسلت طلبات لشخصيات في السلطة الفلسطينية تطالب بوقف البناء طبقاً لبنود الاتفاق، هذه الطلبات لم يتم الرد عليها”.
المحمية المتفق عليها
في حين أن المستوطنين يعتبرون البناء في القرية الجديدة خطة منظمة من قبل السلطة الفلسطينية لخلق تواصل جغرافي فلسطيني في الضفة، ويشيرون إلى تطوير سريع كمؤشر على ذلك، فإنه حسب أقوال جدال، يدور الحديث بالأساس عن استغلال للفرص. فهو وسكان المنطقة قرروا تسويقها وبيعها كجوهرة جميلة في مناطق “ب”، إدراكاً بأن الأمر يتعلق بمنطقة لا يمكن لإسرائيل التدخل فيها. هذا رغم تعهد السلطة الفلسطينية في اتفاق أوسلو بعدم البناء فيها.
وقال جدال إن السلطة الفلسطينية لم تدعم هذه المبادرة فوراً، وتم البدء ببناء جزء من البيوت حتى قبل أن تصبح السلطة مؤيدة لهذه العملية. وحسب قوله، كان يجب عليه وعلى أصحاب الأراضي الآخرين تقديم الإثباتات للسلطة بأن الأمر يتعلق بأراض خاصة بملكيتهم وليس بأراض عامة. في نهاية العملية، قال إنهم نجحوا في إقناع السلطة بذلك، ما أدى إلى تشكيل المجلس الذي يترأسه، والذي أصدر رخص بناء لمن طلب ذلك.
في هذه الأثناء، يقول، بات في المنطقة 200 مبنى، أقل من نصفها مأهول. قرار إسرائيل وقف البناء أدخل المستثمرين والمشترين في دوامة. وهو يقدر بأن المجلس -حسب قوله- حصل على اعتراف من السلطة قبل سنة فقط، وأن الأشخاص الذين اشتروا الأراضي خسروا نحو 30 مليون دولار نتيجة انخفاض أسعار الأراضي.
محمد (30 سنة)، أحد سكان القرى في المنطقة، اشترى أرضاً في المالحة. وقرر شراء هذه الأرض بسبب سعرها الرخيص مقارنة بالقرية التي يعيش فيها الآن. “أنفقت 900 ألف شيكل على الأرض عام 2023، بعد ذلك بدأت في حفر الأساسات، ولكني توقفت منذ قرار سموتريتش”، وأضاف: “كان يجب أن أنتقل إلى هنا، ولكننا بدلاً من ذلك، نحن العائلات الثلاثة، نعيش في بيت مساحته 200 متر.
محمود طرايرة، أحد سكان شرقي القدس، بين كيف ذهب استثماره هباء. “الأراضي في شرقي القدس غالية جداً”، قال طرايرة الذي اشترى 28 دونماً في المنطقة، 24 منها لإعادة بيعها. “الآن، لا قيمة للأرض”، وأضاف: “لا أحد سيشتري هنا. تقديري أنني خسرت 400 ألف شيكل”.
آباؤنا ليسوا آباءهم
قرار الحكومة هدم المباني في مناطق “ب” لم يكن بين عشية وضحاها، فقد سبقته خمس سنوات، كانت خلالها حملة مكثفة للمستوطنين شملت جولات لأعضاء كنيست ووزراء في المكان، من بينهم وزير الدفاع السابق يوآف غالنت ووزيرة البيئة عيديت سلمان. إضافة إلى ذلك، فإنه منذ تشكيل الحكومة الحالية أجرت لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، أربعة لقاءات على أقل تقدير في هذا الشأن.
لكن حقيقة أن الأمر يتعلق بمنطقة أعطيت للسلطة الفلسطينية في إطار اتفاق “واي” احتاجت حلاً إبداعياً. فمن أجل الامتناع عن المس بالاتفاق السياسي، ولو على الورق، ادعى أعضاء الكنيست من اليمين بأن الفلسطينيين في هذه المنطقة يضرون بالطبيعة أو بالأمن. مع ذلك، في جلسة للجنة الخارجية والأمن في أيار، قال المستشار القانوني لشؤون “يهودا والسامرة” في النيابة العسكرية، ايلي ليبرتوف، بأنه لا يوجد رأي معتمد بوجود مس بالطبيعة. وأضاف بأن قائد المنطقة الوسطى في حينه، يهودا فوكس، لا يعتقد أن البناء نفسه يشكل أي خطر أمني. ارتكز قرار الكابنت في نهاية المطاف، إلى خرق اتفاق “واي” من جانب الفلسطينيين.
شاؤول اريئيلي، رئيس مجموعة البحث “رمزور” والذي شارك في صياغة اتفاق “واي”، قال إن اعتبار المنطقة محمية لم ينبع من رغبة في الحفاظ على الطبيعة، بل من نية نتنياهو شق الشارع 80 الذي سيكون امتداداً لشارع أ”يالون”. “في حينه، قلنا إن هذه ستكون محمية طبيعية، لم يبنوا هناك، وهكذا لن تكون مشكلة”، قال أرئيلي. وحسب قوله، فإن الادعاء القائل بأن السلطة الفلسطينية تخرق الاتفاق ينطبق بعشرة أضعاف بالنسبة لإسرائيل التي تقوم بخرق الالتزامات بشكل أحادي الجانب وبصورة متواترة. وتطرق اريئيلي إلى توسيع البناء في القدس، وبناء المستوطنات وشرعنة البؤر الاستيطانية. “عندها، يقولون بأنهم يخرقون الاتفاقات؟ نحن الذين سحقناهم كلياً”.
من منسق أعمال الحكومة في المناطق جاءنا رد: “طبقاً لاتفاق “واي”، تم نقل منطقة المحمية المتفق عليها من مكانة مناطق “ج” إلى مكانة مناطق “ب”، من إدارة دولة إسرائيل إلى إدارة السلطة الفلسطينية. مع ذلك، حسب الاتفاق، تعهدت السلطة الفلسطينية بعدم البناء في المنطقة. خلال السنين، لا سيما في السنوات الأخيرة، عندما ازداد البناء في المكان، أرسلت طلبات لشخصيات في السلطة الفلسطينية طلب فيها وقف البناء طبقاً لبنود الاتفاق، هذه طلبات لم يرد عليها. في المقابل، وطبقاً لتوجيهات الكابنت السياسي الأمني، فقد وقع قائد المنطقة الوسطى على أمر خاص يهدف إلى السماح بتطبيق قوانين البناء في المكان من قبل الإدارة المدنية. هذا الأمر لم يغير مكانة المنطقة، التي ما زالت تعتبر من كل النواحي مناطق “ب”.
“وفقاً للاتفاقيات المرحلية، فإن صلاحية تطبيق القانون على الإسرائيليين في المنطقة، التي تم نقلها للسلطة الفلسطينية، بقيت في يد القائد العسكري، وضمن ذلك الإدارة المدنية. بقوة هذه الصلاحية، جرت نشاطات تطبيق للقانون على البناء غير القانوني في مناطق “ب” في أماكن مختلفة، منها أيضاً المحمية المتفق عليها. عندما يقتضي الأمر، نصدر أيضاً أوامر تسمح بخطوات لإنفاذ القانون بشكل أسرع، سواء بواسطة أوامر ترسيم أو أوامر الإغلاق العسكرية التي تمنع دخول المنطقة. هذا ما حدث أيضاً بخصوص المنطقة التي تسمى “مكنيه أبراهام””.
هآرتس 22/12/2024