العبارة في العنوان مستفادة من معلقة امرئ القيس يصف حصانه في بيت مليء بالمقابلات يقول فيه (مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا … كجلمود صخر حطّه السيل من عل). هذا المعنى مألوف في سياق وصف الفرس في الحرب، وما فيها من الكرّ والفرّ والإقبال والإدبار في استراتيجيا الهجوم والرجوع إلى الوراء من أجل أخذ المسافة وتدبير هجوم جديد. نحن لا يعنينا هذا المعنى هنا من الجهات التي ناقشه بها النقاد وشراح المعلقات، بقدر ما يعنينا قدرة اللغة على وصف ما لا يُدرك إدراكا متزامنا في الحيّز البصري.
لفظة (معا) التي جاءت لبيان كيفية الإقبال والإدبار هي التي أربكت المعنى المعتاد، وأوحت بأنّ الحركتين متزامنتان فكأنك ترى إقبال الحصان بفارسه في الآن نفسه الذي ترى فيه إدباره، وهذا هو وجه الفرادة في المعنى، ولكن أيضا في التمثّل والإدراك.
إدراك المشاهد يختلف طبعا باختلاف الموضع الذي نقف فيه ونراها منه، وهو الذي يسمّى زاوية النظر Point of View، أو بعبارة كثيرة الدقّة Vantage Point واخترنا في بحوثنا أن نترجمها بعبارة عريقة هي المُطَّلَع أي المكان الذي نطّلع منه على مشهد معيّن. لنفترض أنّا نراقب نزالا فيه فرس الفارس من مطّلع يشرف على المشهد، في الحالات العادية سنرى الفرس، فرس الفارس مقبلة، أو مدبرة في زمانين مختلفين، وحسبما يراه الفارس من حكمة في تقنّص من يواجهه، والرجوع إلى الخلف للعودة من جديد. وأنا في المطّلع سأسمّي إقبالا حركة معينة أحدّدها بموضعي بالنسبة إلى المشهد وهي أن أرى الفارس والفرس وجهه إلى وجهي؛ وسأسمي إدبارا أن يكون وجهي في قفاه ووجهه في الناحية الأخرى المعكوسة. الإقبال وضعية من يرى من الأمام والإدبار وضعية من يرى من الخلف، لكن ليس من المقبول أن ترى شخصا مقبلا ومدبرا في الآن نفسه.
من الممكن أن تهاتف جارك في الشقة المقابلة من العمارة الأخرى لتسأله بهاتفك عن زيد:
(هل خرج من عندك؟) ثم يقول لك وهو يلقي بنظرة على الشارع :(نعم أراه مدبرا) وحين تتطلع فتراه ستقول: (نعم إني أراه مقبلا) سيكون مقبلا ومدبرا معا ولكن من وجهتي نظر مختلفتين. من الممكن لذلك الشخص الذي تراه مدبرا أن يعكس فعله إن قفل إليك راجعا وعاد أدراجه لأنّه نسي شيئا ما سوف تقول عنه: (إنّه مقبل من جديد عليّ) وسيقول جارك (نعم أراه وقد أدبر). إنّه وصف آنيّ لمشهد يتحرك فيه زيد ولكن من زاويتي نظر؛ ثمّ وصف زماني تطوّريّ، أو تتابعي لحركته يحدث بعد أن تتغير الحركة في الفضاء بالنسبة إلى رائيَيْن: واحد كان يرى من الخلف، ثمّ بات يرى من الأمام وآخر كان يرى من الأمام ثمّ بات يرى من الخلف.
علينا أن نفهم (مقبل ومدبر معا) على أنّهما حركتان آنيّتان إن كنّا نراهما بعين ناظرين أو أنهما حركتان زمانيّتان إن كنّا نراهما بعين واحدة تراه مقبلا ثمّ مدبرا: مهاجما ثمّ مراوغا متباعدا. لكنّ للساني الفرنسي إميل بنفينست رأيا مختلف، إذ يرى أنّ المتكلم يتملّك اللغة في اللحظة التي يتحدّث فيها؛ ذلك أنّ قائل (مقبل) أو (مدبر) هو متملك للكلام، لأنّه حدّد المتحرك بالنسبة إليه، سواء أكان في موضع الخلف أو الأمام. بعبارة أخرى وحسب بنفينسيت، فإنّ تحديدنا لموضع المقبل المدبر معا لم يكن إلاّ بالنسبة إلى من يتملك الكلام، أو المتلفظ القائل. في التصوّر العرفاني يختلف الأمر، فالمتحرّك هو الذي يمثل بؤرة الانتباه وحركته متى جعلناها في مرمانا البصري كانت هي الأساس. وما على الرائي إلاّ أن يبني الوضعيّة بالقول مثلما يبصرها بالعين المجردة. القول يمثّل ما نراه بصرا أو يشفّره باللفظ. يمكن أن أرى، ولا أصف، ويمكن أن أرى وأصف، ولكنّي في كلتا الحالتين أعالج مشهدا أمامي هو، وضعية متحركة فيها هدف متحرك ومحيط ثابت؛ وأنا في المشهد جزء من المحيط الثابت، لأنّي لو غيرت موضعي فلن يكون ما أراه مدبرا أو مقبلا.
البصر يعالج المشهد إدراكيا بالعين، لكنّي حين أريد أن أبني الوضعية باللغة أستعمل لها رموزا هي في الحقيقة عبارات تمثل ما أدركته من المشهد. أنا حين أرى ولا أتكلم أدرك وحدي المشهد، ولكنّي حين أصفه باللغة أبنيه لي ولغيري. الرؤية والإبصار شيء أحاديّ لا يتقاسم؛ ولكنّه حين يبنى باللغة يصبح موضوع تشارك.
بناء عليه حين يرى الشاعر حصانه أو حصان غيره مقبلا مدبرا معا فتلك طريقة في بناء الوضعية وتمثيلها، قد لا تشبه ما حدث في الخارج. لسنا مطالبين حين نكون شعراء أو حتى حين نكون متكلمين أن نطابق بين ما نرى وما نقول، وليس مطلوبا من اللغة أن تنقل بصدق ما يحدث في إطار الخارج، أو المرجع. في الواقع وفي لحظة معينة يمكن أن تقبل أو تدبر ولكنّ اللغة يمكن أن تخالف في بنائها الواقع، لا لأنّها تريد ذلك، بل لأنّ إدراكنا للوضعيات هو ما يوحي لنا بطريقة معيّنة في بنائه. نحن حين نتحدث واصفين وضعيّة نطلّ على المشهد مثلما نطلّ عليه ببصرنا، ولكنّا نطلّ عليه بإدراكنا له أي بما يمكن أن نستوحي منه أو ما يمكن أن نصّدقه تصويريا بيننا وبين أنفسنا، لذلك تسمح اللغة لأيّ متكلم أن يبني رؤية غير فعلية هي مثلا أنّ الفرس يقبل ويدبر معا في آن واحد.
البناء عملية إدراكية بها نتمثل مشهدا في وضعية معينة بمراعاة عناصر أربعة هي الخصوصية والتبئير والبروز ووجهة النظر. فوجهة النظر ليست إلاّ معيارا من معايير بناء الوضعيات وإدراكها، وهي متفاعلة مع هذه العناصر جميعا. حين أقول رأيتك مقبلا وتكون أنت مقبلا فعلا بالنسبة إليّ، فأنا وصفتك بشكل موضوعي محايد والموضوعية هنا تعني أن أبني الموقف بالطريقة التي لا ذاتية فيها ولا انفعال. ولكنّك حين تكون مدبرا وأقول أراك مقبلا فإنّ العبارة تصبح ذاتية لأنّي أنا من ينفرد بهذه الرؤية بقطع النظر عن سببها عندي أكانت وهما أم كانت لعبا على الكلام أم غيرها. الموضوعية ليس أن تستعمل عبارات يستعملها الناس جميعا لوصف وضعية مطابقة في الوعي الجمعي، بل هي تكييف للعبارة مع الوعي الجمعي والطريقة التي أرى بها الأشياء. ومن جهة أخرى فإنّ البروز يمكن أن تنجزه عبارات من نوع (معا) التي لا تخصص، بل تبرز واحدية الحركتين المتقابلتين. البروز الإدراكي يختلف عن التبئير، البؤرة المشهدية لواصف معين يمكن أن تتحدّد على أن تنصبّ الرؤية على مشهد مركزي له محيطات أو خلفيات؛ ولكنّ البروز الإدراكي يمكن أن تحدثه المخصّصات بأن تركز على شيء يمكن أن يمرّ بصمت إن لم يذكر.
الجمعية في (معا) هي وجه من الوجوه التي بها ندرك الوضعية الموصوفة؛ ولكنّ الخصوصية تعني درجة الدقة في وصف الحدث، لذلك فإنّي كلما اخترت العبارة الأكثر دقة كنت أكثر خصوصية، وكلما ملت إلى التعميم كنت خطاطيا. فالإقبال هو أكثر خصوصية من السير، أو المشي، أو الحركة، ولكنّه أقل خصوصية من قولي (مدبر عنك بوجهي) لأنّ الإدبار في هذه العبارة المطوّلة حدّد الوجه ولم يحدّد كامل الجسد.
أن تكون مقبلا في الحياة، أو على الحياة هي مسألة أخرى لا تنتمي إلى استعمال الكلام استعمالا مجردا أو رمزيا؛ بل هو قبل ذلك وبعده بناء للوضعية بشيء من التخصيص والاستعارية تكون فيها الحياة إطارا للإقبال، أو وجهة نحوها يتحرك وجه ينشدها وكيان يريدها.
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية