نموذج إيغال عمير

حجم الخط
1

على أعتاب الذكرى العشرين لاغتيال إسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق؛ لا يلوح أنّ قاتله، إيغال عمير، قد فقد الكثير من الشعبية لدى شرائح واسعة من الجمهور الإسرائيلي، أو كفّ عن كونه قدوة يُحتذى بها، بين حين وآخر. مؤخراً، على سبيل المثال الأوّل، بادر جندي إسرائيلي إلى كتابة تدوينة على الفيسبوك، تهدد ممثلي اليسار الإسرائيلي بالاغتيال: «أعدكم، وأقسم بروحي، أنني سأكون إيغال عمير الثاني»، قال الفتى الغاضب. قبلها شدّد شقيق عمير، الذي كاد أن يكون شريكه، أو حتى بديله في تنفيذ الاغتيال، على أنّ «الأسرة» ليست نادمة على فعل الاغتيال، وكان الشقيق هاغي سيجهز على رابين لو لم ينجح إيغال في تصفيته.
وبذلك فإنّ ابتسامة عمير، التي صارت «ماركة مسجلة» ـ في التعبير الطريف الذي ابتكره كرمي جيلون، رئيس المخابرات الداخلية الإسرائيلية، الـ»شين بيت»، ساعة اغتيال رابين ـ ما تزال أثيرة لدى 30٪ على الأقلّ من شباب إسرائيل، المؤمنين بضرورة إصدار عفو عام عن القاتل. هؤلاء يعلمون، في المقابل، أنّ الرئيس الإسرائيلي لا يملك حقّ العفو عن عمير،عملاً بقانون خاص سنّه الكنيست الإسرائيلي، يشمل كل من يرتكب جرم اغتيال بحق رئيس وزراء.
يد عمير، أو «اليد اليهودية» كما وصفها بنفسه، تعمدت بدم رابين؛ «ذلك الخائن، واليهودي بالمصادفة»، كما أضاف! والقاتل ضحك أكثر فأكثر حين رفض الناخب الإسرائيلي الانصياع إلى الشعار الذي رفعه حــــزب العمل أثناء الحملة الانتخابية التي أعقبت الاغتيال: «لا تمنحوا إيغــــال عمير سبباً للضحك». لكنّ القاتل ضحك، ملء شدقيه، بل كان الوحيد الذي صوّت مرتين كما قال روائي إسرائيلي آخر هو عاموس عوز: مرّة باستخدام الرصاصة، ومرّة باستخدام ورقة الاقتراع. ومن سخريات الأقدار أن العبارة البليغة Ballot Not Bullet (ورقة الاقتراع لا الرصاصة)، والتي نحتها بنيامين نتنياهو عشية اغتيال رابين، برهنت على أنّ الفارق اللفظي لا يصنع أي فارق عملي على الأرض؛ وأنّ الرصاصة صوّتت تماماً بالفاعلية التي كانت لورقة الاقتراع، وأكثر بكثير ربما.
وقبل أن يخرّ صريع طلقات يهودي من أصل يمني، متديّن متشدّد وخصم للصهيونية لأنها «أقلّ يهودية ممّا ينبغي»؛ نطق رابين بهذه الكلمات: «العنف يقوّض ركائز الديمقراطية الإسرائيلية ذاتها. من الواجب إدانته، واستنكاره». فهل كان يجهل، حقاً، أنّ إرث العنف الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين إنما يستولد عشرات الكسور والصدوع في الضمير اليهودي ذاته، ويستنسخ الآلاف من نماذج عمير، وقبله باروخ غولدشتين بطل مجزرة الحرم الإبراهيمي. ولهذا فإنّ جيلون لا يبالغ حين يقول إنّ الابتسامة ـ «الماركة المسجلة»، التي تطفح على وجه عمير منذ 20 سنة، تطفح أيضاً على وجوه عشرات الآلاف من مناصريه ومحبّيه، الناظرين إليه كبطل وقدوة.
مسلسل التنازلات للقاتل، من جانب إدارة السجون الإسرائيلية، بدأ من اضطرارها إلى إقرار زواجه الديني، عن طريق تفويض أبيه بعقد القران نيابة عنه، بعد رفض طلب الزواج المدني داخل السجن؛ ثمّ أعقبه الحصول على إذن بزيارات زوجية، تمكّن خلال إحداها من معاشرة زوجته، فأنجبت له مولوداً ذكراً؛ والإلحاح، أخيراً وليس آخراً، على نقله من زنزانة منفردة إلى أخرى جماعية، وتمكينه من الصلاة ضمن حلقة من عشرة ذكور، وهذا فرض واجب لاستكمال طقس يهودي ديني أساسي. «هل أحرّض على العنف أكثر من مروان البرغوثي أو الشيخ رائد صلاح؟»، تساءل عمير في تبرير التماس النــــقل إلى زنزانة جمـــاعية؛ قبل أن يضرب مثلاً ثالثاً، إسرائيلياً هذه المرّة: العالم النووي مرخاي فعنونو!
كان في وسعه، أيضاً، أن يضرب قتيله ذاته، رابين الجنرال، مثالاً على عنف أقصى جنحت إليه إسرائيل خلال الانتفاضة الأولى، ضمن فلسفة «تكسير عظام» الفلسطيني؛ أو أن يقتبس أنساق العنف الأخرى التي اجترحها قادة إسرائيل على الدوام، منذ زرعها في فلسطين بقوّة الحديد والنار، واعتماد سياسات التهجير القسري والمجازر والعقاب الجماعي ومسح قرى كاملة عن الخريطة. وهل هي مصادفة أن تحلّ الذكرى العشرون لاغتيال رابين، وحزبه يتلقى ضربات موجعة متتالية من الناخب الإسرائيلي؛ أو يتفكك داخلياً، وذاتياً، في السياسة كما في العقيدة؟
الأرجح أنّ الولع بنموذج عمير، ورفعه إلى مصافّ القدوة في الفداء والتضحية، ليس إلا بعض تطبيقات «الديمقراطية الإسرائيلية»، إذ تعيد اكتشاف الجدل الطبيعي لارتطام حقائق الأرض بالفانتازيا، والجدل العنيف للعلاقة بين القاهر والمقهور، والحقوق الفعلية والخيط الفاصل بين أرض تسيل فيها أنهار الحليب والعسل، وأخرى تُراق عليها أنهار الدماء والدموع.

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمد عفاني قادوس برلين:

    كان اغتيال رابين بمثابة حلقة جديدة من مسلسل إشهار إفلاس خلقي سياسي بدأ باغتيال الصهيوني طبيب هرتسل الخاص ” ماكس نورداو في باريس.
    ولهذا السبب، حرص اإعلامي حدعون لبفي ، بعد نقده اللاذع لللجرائم البشعة التي ارتكبت في غزة ، حرص على عدم السير دون حارس خاص. وأضافت صحيفة ” سود دويتشه S[ddeutsche ” الألمانية المرموقة في 13 آب \اغسطس الماضي ، أن الجلوس كانوا يغادرون المقهى أو المطعم / حالما يتعرفون على ليفي. وكان المقال بعنوان : مناهضوا الحرب يتعرضون للتهديد ويُتركون وحدهم.
    ” مع الشكر للقدس العربي والآستاذ صبحي الحديدي

إشترك في قائمتنا البريدية